05-يونيو-2018

صورة من داخل سجن السرايا في غزة - (gettyimages)

"لا أنسى تلك الرائحة ما دمت حية، كنت أفتش في صرة لوالدي حملها معه بعد نكبة قريتنا بيت دراس ومجيئنا لغزة، وإذ به يحتفظ بكيس كبير من الطوب، سألته: ما هذا يا أبي، طوب يا أبي؟! الناس بتجيب أكل وشرب ولوز من البلاد، فرفع عينيه دامعًا معاتبًا: طوب يا ليلى؟! هذا بخور البلاد. أخذت أشتم الرائحة لأطيب بخاطره - كنت طفلة - ونفذت أمره حينها بأن أفرش ذلك التراب له تحت وسادته".

تجاهلت ليلى عبد الرحمن عمار، عمرها الزهري بعد وصولها السابعة عشر، وقد تشبّعت من والدها عشقًا للبلاد، فانطلقت لتبحث سرًا في الوصول إلى شخص كان معروفًا بأنه من قيادة قوات التحرير الشعبية، التي انطلقت لمحاربة اليهود بعد "النكسة" حرب الـ67.

فلسطينيات يروين لـ الترا فلسطين تفاصيل سنواتٍ سوداء قضينها في سجن السرايا بمدينة غزة على خلفية انضمامهن للثورة

"لم يكن الشباب قادرين على الحركة، ففي كل شارع وبيارة دوريات لليهود للبحث عن السلاح، وهذا ما سرّع بدخولي في العمل الفدائي. كان لي ابن عم ساعدني وأوصل رسالة للقائد باسمي، وتسلّمت مهمة نقل السلاح من مكان لمكان"، تسرد الفدائية الفلسطينية ليلى مسيرتها التي انتهت باعتقالها في سجن غزة المركزي "السرايا" عام 1969.

اقرأ/ي أيضًا: نادر العفوري.. الجنون حين يُصبح خلاصًا

سجن غزة المركزي المُنشأ في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، كان يقع في إطار مقر القيادة العسكرية لجيش الاحتلال البريطاني آنذاك، وكان سجنًا مركزيا للثوار الفلسطينيين، ثم بعد نكبة عام 1948 ووضع قطاع غزة تحت وصاية الإدارة المصرية، استخدم هذا المقر كمجمع للدوائر الحكومية، وخصص جزء منه كسجن للقاطنين في قطاع غزة.

بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، استخدمته "إسرائيل" كسجن ومركز تحقيق للفدائيين والمنتمين لفصائل الثورة الفلسطينية، ثم أُغلق مع عودة السلطة الوطنية إلى قطاع غزة عام 1994، حيث تحرر عدد كبير من السجناء على خلفية اتفاق أوسلو، وتم ترحيل عدد آخر إلى السجون الواقعة داخل الأراضي المحتلة عام الـ48.

كلمات سر

بدأت ليلى بتلقي تعليمات القيادة سرًا. "لم يكن أحد يعرف عني شيئًا، حتى أمي وأبي الذي كان معروفًا بوطنيته". تُبين أنها كانت تخرج لتعبئة جرة الماء، وفي مشوارها تستلم رسائل من طفل لتوصلها بين الفدائيين، ثم أصبحت مكلفة بإخراج السلاح المدفون في البيارة، وتسليمه لبائع خبز لينقله من غزة إلى أماكن أخرى. "كنا نعمل بكلمة سر، فمن أقابله يقول لي كلمة السرّ وأنا كذلك، وإلا فلا سلام ولا كلام".

"كانت شخصيتي قوية لكن قلبي ما كان ميت، فالخوف من كلام الناس ومن الدوريات كان يلازم فكري وأنا أنفذ كل مهمة، خاصة لمّا كنت أذهب للبيارات لإخراج السلاح، لم يكن أحد يعرف عملي ليعذرني لو شاهدني في مكان ما" قالت ليلى.

[[{"fid":"72242","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":507,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

الفدائية ليلى عمار

وتستذكر ليلى ضاحكة ما تقول إنه أكثر المواقف رُعبًا. تقول: "في يوم انقطعت عني رسائل الفدائيين لأيام وكنت أسمع أن القائد يعيش في بيارة الليمون، لم أكن أعرف مكانها لكني ذهبت لأكثر من بيارة فيها ليمون، فضعت فيها ولم أكن أعرف الطريق. صارت الكلاب تنبح والدوريات قريبة مني، كانوا كلما سمعوا صوت الكلاب سارعوا إلى المكان للبحث عن الفدائيين".

أسيرة في ليلة عيد

في الليلة الأخيرة من رمضان لعام 1969، انتهت ليلى من إعداد حلوى القطائف، وعبأت برميل الماء كاملًا، إلا الجرة الأخيرة التي ما أن وصلت بها باب المنزل حتى سقطت وانكسرت. "ياساتر، في نفس الليلة اقتحموا بيتنا واعتقلوني".

فتحت ليلى عينيها وإذا بضابط إسرائيلي يقول لها: "أتدرين أين أنتِ"، قالت "لا"، فأجاب، "في سجن غزة المركزي". ثم تركها في زنزانة لا تتعدى مساحتها مترًا في مترٍ لثلاثة أسابيع، بدأت بتاريخ 9 كانون الأول/ديسمبر 1969. تقول: "البرد أكل من جسدي قطعًا قطعًا، وكنت أتوسد لأنام بالحذاء".

اقرأ/ي أيضًا: هدده المحققون بزوجته وقطعوا خلفه.. ولم يرضخ

التقت ليلى في السجن بالفدائيات عايدة سعدة، وخديجة الحلو، وصبحية سكيك، "الكل صار يسأل: من هذه التي جاءت في ليلة عيد، من صدمتهم".

[[{"fid":"72241","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":507,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

الفدائية ليلى عمار - أقصى يسار الصورة - خلال المحاكمة

تعرضت ليلى لتعذيب جسدي عبر الضرب، لكن في حديثها استدركت: "هذا ليس تعذيبًا بالنسبة للتعذيب النفسي، فلطالما هددوني بالاغتصاب من مجموعة، وتلاعبوا بأعصابي، ففي كل ساعة يهددوننا بشرفنا وبأن أطباء سيجرون لنا فحصًا". توقفت قليلًا وقالت: "كانوا يعرفون أن شرفنا وكرامتنا أعز ما لدينا، لكن ربي كان يلهمني الصبر على هذه التهديدات".

عُرضت ليلى على المحكمة وصدر بحقها حكم بالسجن 9 سنوات، واجهها القاضي برسائل متبادلة واعترافات عليها، وبعد الاستئناف من محاميها تم تخفيفه لـ5 سنوات، ثم خرجت من السجن بعد قضاء محكوميتها، ليعيد الاحتلال اعتقالها بعد أقل من ثلاثة أشهر، والسبب "ما بدها تقعد ساكتة" كما قال لها مدير السجن.

وجهت سلطات الاحتلال لـ ليلى تُهمة تجنيد أخيها الأصغر زياد، وحُكم عليها بالسجن ستة أشهر، فيما حُكم على أخيها بالسجن سنة ونصف. بعد تحررها شقّت ليلى طريقها في حياة الزوجية والأبناء، ولا تزال - بعد أن أصبحت مقعدة - تعتز بتاريخها الفدائي الذي تعتبره "فرض عين". تقول: "ياريت هالتاريخ يرجع أو أرجع لبيت دراس قبل ما أموت".

[[{"fid":"72240","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":507,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

تعذيب مُميت

"كان عملي أكبر خطورة من غيري، لأنني كونت مجموعات فدائية وكنت أحمل السلاح وأستخدمه أيضًا، وأسعف الجرحى، كوني درست في الثالث الإعدادي التمريض، لهذا شبحوني وأطفئوا السجائر على جسدي وعلقوني أسبوعًا كاملًا، وصعقوني بالكهرباء، ثم في إحدى ليالي الاعتقال كان ذلك الجندي يُفكر ما الذي من شأنه أن يوجعني أكثر، فهمّ بشعري وكان طويلًا واجتثه بالقوة من جذوره"، تتحدث الفدائية الستينية دلال أبو قمر لـ الترا فلسطين.

تقول: "اعتُقلت في 12-4 (نيسان) عام 1969، وكان أول اعتقال لي وعمري 15 سنة، ثم اعتقلت في عام 1971 وبقيت في السجن حتى عام 1977، لكني لم أترك عملي ولم يتركوني، فاعتقلوني عام 1982 وقضيت عشرة أشهر، وأخيرًا عام 1985 بتهمة أنني ضربت جنديًا على رأسه".

[[{"fid":"72243","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":394,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]

الفدائية دلال أبو قمر

التقت دلال في سجنها مع الفدائية نهلة البايض، وهي أكثر فدائية تعرضت للاعتقال آنذاك، حيث قضت حوالي 15 عامًا في غيابات "السرايا". وتذكر أن من وسائل التعذيب سكب الماء الساخن على جسدها، ثم الماء البارد، إضافة لابتزاز يشبه ما تعرضت له ليلى.

تضحك باستهزاء مستذكرة موقفًا جمع بين الألم والسخرية خلال إحدى جولات التعذيب، إذ قالت للجندي وهي تضحك حينما همّ بصعقها بالكهرباء: "أنت غبي"! فردّ "لماذا؟ ولماذا تضحكين؟" فردت عليه: "لأنك توقفني على طاولة خشب وتريد صعقي بالكهرباء، هكذا لا تصل الكهرباء لجسدي". فثار غضبًا وأمرها أن تحمل كرسيًا وتظل واقفة به ليل نهار مدة أسبوع.

اقرأ/ي أيضًا: كريم يونس.. وما تبقّى من أمل

ظلت دلال تتعرض للشبح والضرب خلال سنوات اعتقالها، حتى ضربها جنديٌ على رأسها وفقدت القدرة على الرؤية. في عام 1985، نُقلت إلى مستشفى هداسا الإسرائيلي في القدس سرًا، ومنعت إدارة سجون الاحتلال أهلها ومحاميها ومعارفها من زيارتها خوفًا من اكتشاف الأمر، فخاضت مسيرة علاج ثلاث سنوات عادت على إثرها إلى وعيها.

تذكـر عندما تعثرت في إحدى بيارات غزة بالفدائي عبد الله عروق، ملقىً على الأرض مثخنًا بالجروح، فأسعفته وأوصلته إلى بر الأمان. تقول إنها التقت به صدفة في غزة قبل أشهر، وقال لها: "ليتكِ لم تنقذي حياتي، لئلا أرى هذه الأيام التي وصل إليها وطني من الضياع".

ولا تزال "دلال" تأمل من على فراش المرض عودتها إلى مسقط رأس والديها في قرية يبنا المهجّرة إبان مذابح النكبة.

يشار إلى أن التعذيب أثناء الاعتقال في سجن غزة المركزي أسفر عن استشهاد أكثر من أسيرة في ستينات القرن العشرين والسبعينات منه. كما رحّلت سلطات الاحتلال عددًا آخر منهن، فيما بقيت أغلبهن في غزة، بعضهن لاجئات ينتظرن يوم العودة لقراهّن قبل الممات، وأخريات أصبحن مقعدات في سن مبكرة، نتيجة سنوات الاعتقال السوداء.


اقرأ/ي أيضًا:

بروفايل | وليد دقة.. "رجل الزمن الموازي"

معتقلات الاحتلال أفقدت حسان التميمي عينيه

طحين الأسرى وابتساماتهم