16-أغسطس-2017

صورة تعبيريّة/ getty

الفضيحَةُ أوّلاً بحسب معجم المعاني الجامع: "الشّهرة بما يعاب، انكشاف المعايب، كلُّ ما ينكشف من انحرافٍ عن القيم الخلقيّة، ما يجلب العار ويؤذي المشاعر الأخلاقيّة للمجتمع"، وربّما أضفنا، ما يُؤذي المشاعر النّفسيّة للرِجال ذَوي الياقاتِ الفاسدة.

 نخشى الحديث في الأمر، ولا نخشى الوصول إلى حقيقة الأمر، إنّنا نخشى الأمر بحدّ ذاته، نخشى معرفته وإدراكه!

كنت ما أزال في الثانوية العامة، حينما التحقت بمجموعة سياسيّة – لن أسمّيها هنا ليس خوفًا، بل تجنُّبًا للتخصيص في مسألة قد تكون أكثر من عامّة بقليل وأقلّ من خاصة بكثير. وآنذاك، اختلفت مع المجموعة ببعض الآراء، صحيح أنّي كنت ما أزال في الثانوية العامّة، لكنّي كنت دائمًا ميّالًا إلى الاختلاف، ربّما حتّى مع نفسي. المهمّ، كان ما كان من الخلاف الذي انتهى، وكان أولى صدماتي النّفسية، إلى التّهديد بالاعتقال والتّشهير بالعمالة. وأتذكر تلك الليلة التي عدت فيها إلى البيت وقهر مرعب يستبدُّ بي، بكلّ كياني، كان الأمر بالنّسبة لي ليس خيانة مجموعة من الأصدقاء، بل خيانة من العالم.

وظللت أشهرًا مرتعدًا وخائفًا من تبعات هذا الخلاف، حتى صار الأمر نسيًا منسيًّا، إلى أن قرأت تقريرًا على موقع ألترا فلسطين قبل أسابيع، عن مقتل المهندسة نيفين العواودة، الذي انتشر انتشار النّار في الهشيم خلال أقلّ من 24 ساعة. في ذلك الوقت المبكّر من الليل استوقفني الخبر بعض الوقت، لكنّي سرعان ما انشغلت بأمرٍ ما، حتى هدأ الليل، وتفجّرت الخواطر الليلية المقلقة. عندها عدت إلى التقرير، ومن خلال الفيسبوك، تشعّبت في تفاصيله حتّى وصلت إلى صفحة نيفين الشّخصية، وخاصّة الفيديو الذي صوّرته لنفسها في شقّتها ليلًا.

نيفين، بدت شبحًا غريبًا في ذلك الفيديو. كائنًا ليس من هذا العالم ولا دخل له به. أو، كانت من هذا العالم، وسُلِخت عنه ببطئ إلى أن تحوّلت إلى ما يشبه بقايا كائن إنساني لا هو بالعاقل ولا هو بالمجنون. وعلى صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، قرأت الكثير من التعليقات التي كانت في أغلبها تشير إلى حالة مرضيّة نفسيّة عند نيفين. وأكثر من ذلك، ربما ذهب البعض إلى حدّ أنّها كانت متلبّسة من قبل جنيّ ما أو عفريت. وكانت صفحتها تحديدًا ومنشوراتها الأخيرة، تعزز هذا الاعتقاد لدى كثيرين. وكنت دائمًا مقتنعًا، سواء تمّت التصفية الجسديّة للإنسان من قبل أو من بعد، فالتّصفية المعنويّة دائمًا تكون سابقة حتّى ولو تلت القتل الجسدي. بقصدٍ أو دون قصد، فالمهندسة، تمّ تصفيتها اجتماعيًا عن طريق التّشكيك بسلامتها العقليّة ووصمها بالجنون أو بالغرابة المثيرة للقلق الاجتماعي. إنّ كائنًا مثلها، يشكّل للمجتمع الإنساني عمومًا، وللمجتمع الفلسطيني خصوصًا، رهابًا إنسانيًا قديمًا متجددًا ومتجذرًا في النّفس الإنسانيّة، هو الخوف.

هي تثير الخوف، وأثارت هذا الخوف، خاصّة من خلال الفيديو الذي صوّرته لنفسها، وطريقة كلامها على الفيسبوك، وكلّ ملابسات القضيّة. كلّ هذا يثير الخوف في النّفس الإنسانيّة ويجرّدها من أقلّ شعور بالأمان الداخلي. إن مجتمعًا احتفظ لنفسه بمثل شعبيّ من قبيل: "امشي الحيط الحيط وقول يا ربي السّتيرة"، مجتمع يخشى الفَضيحة لكأنّما هو يوشك على الإنفضاح في أيّ دقيقة وفي أي لحظة. والسؤال الذي يبرز وبشكلٍ عفويّ: أيّ فضيحة تحديدًا؟ فضيحة من؟

وكنت أقول لنفسي: قيمنا المجتمعيّة هشّة وتافهة إلى حدٍ لا يمكن تصوّره. وحينما كنت أشاهد الفيديو، اختبرت بعضًا من مشاعر الخوف هذه. مشاعر لا يمكن تفسيرها أو كتابتها، ولكنّها تشير إلى حقيقة ماثلة أمام أعيننا ولكنّنا نخشى الحديث عنها. "إنّ في داخلنا وحوشًا.. حتّى ولو كنّا فلسطينيين!". بالطّبع لسنا ملائكة، وإلّا لما رميَ بجثّة في وسطنا ونحنُ التهمنا الأخبار حول الجثّة وصاحبتها ونسيناها بعد أيّام. نخشى الحديث في الأمر، ولا نخشى الوصول إلى حقيقة الأمر، إنّنا نخشى الأمر بحدّ ذاته، نخشى معرفته وإدراكه. وكنت قد كتبت مقالًا عن الأخ الأكبر، الذي تمثّله السلطة، أيّ سلطة في العالم وليس السّلطة الفلسطينيّة تحديدًا رغم أنّ المقال يتحدّث عن السلطة. إلّا أن هناك نوع مختلف من الأخ الأكبر، هو رعبنا الداخليّ من الفضيحة، من التمزّق، أو لنقل بتعبير أدبيّ: رعب أن ننكشف عاريين تحت حرّ الشّمس أمام أعين المتفرّجين الفضوليين.

وراودتني فكرة ما. أنّ هناك مجالين عامٌ وخاص. في المجال العام، في السياسة والشأن العام، لك أن تختار طريقين؛ الأول، أن تمتنع عن التدخّل والمعارضة والنقد، وبذلك تضمن عدم التعرّض لك في المجال الخاصّ. والثاني، أن تختار التدخّل والمعارضة والنقد، ولكن، أيضًا، في ذات الوقت، تضمن عن طريق اتّفاق مجتمعي، عدم التعرّض لك في مناطق معيّنة من مجالك الخاصّ. عدم التعرّض لزوجتك مثلًا، أو سرقة مالك، وللمفارقة، فإنّ قتلك ممكن، وسجنك ممكن، هذه كلّها ممكنة في إطار الاتفاق المجتمعي مع السُّلطة. إلّا أنّ هناك مجال ثالث، لا هو بالعام ولا هو بالخاصّ. تمارسُ فيه السُّلطة، نوع دمويّ من العنف، وفيه تمارس السّلطة من خلال مجموعة من النّفوس الإنسانيّة المريضة أبشع وأفظع الفظاعات الممكن تصوّرها. مجال أو شيء يشبه "الديب ويب"، منطقة مظلمة تمامًا. وفاعلوا هذه المنطقة، هم عصبة السُّلطة المجتمعيّة غير الرّسمية، وضحاياها هم أيُّ شخصٍ منّا، وقد تكون قضيّة المهندسة، تقع في هذه المنطقة المظلمة.

 شبَح قضيّة المهندسة، ليس ببعيد عن شبح القضايا الكثيرة "المسكوت عنها"، والممنوع الاقتراب منها جهارًا أو سرًّا

هكذا إذن، عدت إلى النّقطة الصفر. إن كل عقودنا الإجتماعية المبرمة مع السُّلطة، لا تساوي فلساً، بالنّظر إلى عدم وجود عقد اجتماعي مع عصبتها المتسلِّطة. ومن عاش أيّام الانتفاضة الثّانية الأخيرة، يدرك مغزى هذا الكلام جيّدًا، ويعرف أنّ شبَح قضيّة المهندسة، ليس ببعيد عن شبح القضايا الكثيرة "المسكوت عنها"، والممنوع الاقتراب منها جهارًا أو سرًا، من الأيّام الأخيرة للانتفاضة الثانية.

لهذا ربّما، رجعت عن لومي للنّاس لكثرة استخدامهم لمثلهم الشعبيّ: "امشي الحيط الحيط.."، وليس فقط بسبب العصبة المتسلِّطة وقلّة حيلتهم عليها. فالرّب، بالعربيّة، لا يعني فقط الله، بل هو يعني الرَّب وليّ الأمر، ووليّ النعمة، والسُّلطان. وهذا الرّب، الذي يطلبُ الإنسان منه "السترة"، قد يغضب فجأةً، ويذهب حد فضحه وتمزيقه، والفضيحة هنا، لا تتعلّق بفعل شنيع قام به الإنسان حقًا، بل ربّما باختراع فعل شنيع. والفضيحة نفسها في نفسِ الإنسان، بهذا المعنى في هذا المثل الشعبيّ، ربّما تعكس شعورًا بالذنب طوال الوقت، ربما ميراث من شعور الإنسان الدائم بالذنب ورغبته بالاعتذار، شعوره بعدم طهارته منذ خرج من الجنّة، وأنه لا يستحق رحمة ربّه إلا بقدر ما يعذّب نفسه ويقدم النّذور تلو النذور. طلب دائم بعدم الفضيحة، إنسان يخاف الفضيحة بشكل دائم لأنّه يشعر بعورته منذ شعر آدم لأوّل مرة بهذه العورة.

 الرّب في العربيّة، لا يعني الله فقط، بل هو يعني وليّ الأمر، ووليّ النعمة، والسُّلطان. وهذا الرّب، الذي يطلبُ الإنسان منه "السترة"، قد يغضب فجأةً، ويذهب حد فضحه وتمزيقه، والفضيحة هنا، لا تتعلّق بفعل شنيع قام به الإنسان حقًا، بل ربّما باختراع فعل شنيع!

إذن ما هي عورتنا؟ بشكل أكيد الأمر متعلّق بـ الجنس. ولكنّ الأمر منذ زمن ما عاد متعلّقًا بالجنس وحده. أصبح متعلّقًا بالوجود الإنساني بحدّ ذاته. وأتذكر في الأيام الأولى لقضيّة المخطوفين الستّة ومنهم الشهيد باسل الأعرج، أنّي لمست شعورًا بالخوف استبدّ بالناس من فكرة الاختفاء المطلق لثلاثة شبّان فجأة. شعور أوصل بعضهم إلى عجز مطلق وعدم قدرة على استيعاب الفكرة ومطالبة دائمة وحثيثة للسلطة بقول أيّ شيء. ولاحظوا: قول أيّ شيء. كانت الحاجة إلى متحدّث رسمي تفوق أيّ حاجة رأيتها من قبل في حياتي. وفي المقابل، فإنّي لم أجد مثل هذه الحاجة في قضيّة المهندسة. وفكّرت أنّ المسألة متعلّقة بـ المرأة نفسها. إنّ هذا الكائن المسمى بالمرأة، مركز الهاجس بالفضيحة، محور الخوف الدائم، ومركز التفكك الاجتماعي، هو الذي منع قضيّة المهندسة من أن تكون قضيّة المخطوفين الستّة. لأنّها قضية اجتماعيّة، ولأنّها قضيّة تمس بأشد الأوتار حساسيّة، وأشدُّها استثارةً لمشاعر الخوف. الخوف حتّى من الاقتراب منها والقراءة عنها من بُعد وطمأنة أنفسنا بالقول: ليس الأمر إلا حادثة، أكيد استثنائية، ولكنّها ليست عامّة، أكيد إنّها ليست عامّة، هي حالة خاصّة فقط. ولكنّي أشكُّ بهذا الأمر، ولو نظرنا إلى عدد جرائم القتل، في النساء وفي الرجال، في ظروف غامضة وفي ظروف واضحة، ملتبسة وغير ملتبسة، ولو نظرنا إلى جرائم "البلطجة والزّعرنة"، في البلد، لوجدنا أنّها ليست حالة خاصة، والحالة الخاصّة في القضيّة هي المهندسة نفسها، ربّما عنادها كان الاستثنائيّ وليس العصبة المجرمة نفسها.

 البعض منّا، لديه الاستعداد النّفسي، لأن يلقي بنا واحدًا واحدًا من نوافذنا إذا كان لنا بعض عناد المهندسة نيفين

وحتّى لا أطيل أكثر من هذا، سألقي السؤال الأخير. إني أعتقد أنّ هناك البعض منّا، القادر ولديه الاستعداد النّفسي، لأن يلقي بنا واحدًا واحدًا من نوافذنا إذا كان لنا بعض عناد المهندسة، وكما كتبت من قبل، فلنتخلّ قليلًا عن اعتقادنا السّاذج بهويّة وطنيّة ثابتة لا يمكن معها تصوّر حدوث مثل هذه "الخوارق" من الجرائم في مجتمعنا، إذ أنّ هذه الخوارق ما تلبث أن تصير عادة بيننا بعد بضع سنوات، ونكون كشخصيّات دوستويفسكي المشدوهة أمام آكل لحم الستون راهبًا، ولنسأل أنفسنا منذ الآن: إذن ما هي عورتنا حقًا، ما نعتقده عن أعضائنا الجنسيّة وأجساد النساء منّا، أم إنكارنا السّاذج وهربنا الجبان من مواجهة الحقيقة كاملة؟


اقرأ/ي أيضًا:

فلسطين في عيون أهل بكين.. يا للهول!

المثقف الأكاديمي: الصمود المقاوم أولى من الساكن

هرتسيليا حبيبتي.. شعث وبلير ومصائب أخرى!