28-فبراير-2021

في "الفقدة" تخرج النساء إلى بيت المخطوبة يغنّين ويحملن الهدايا (JAAFAR ASHTIYEH/Getty)

"ليلاً قمنا بترتيب المنزل وتحضير الحلويات. وفي الصباح الباكر أنهيتُ إعداد الحلويات الساخنة كالحلبة والنمورة، والفطائر. كانت قد اشترت ابنتي المخطوبة ثوبًا جديدًا لترتديه أمام الحاضرات بعد العصر، استقبلنا النساء من القريبات وهن عماتها وخالاتها وبناتهن وزوجات أعمامها وجدتاها، وأهل العريس من النساء وقريباته، تبادلنا الأحاديث ورقصنا، غنينا وزغردنا، قدمنا الضيافة، وقبل رحيلهن بساعة، وُضعت الهدايا أمام الجميع وكنَ يقلن بمرحٍ وتصفيق، هذا من فلانة، وذاك من فلانة". هكذا لخَّصت شادن الجد لـ الترا فلسطين تفاصيل "فقدة المخطوبة"، وهي واحدة من عادات كثيرة ترتبط بصلة الرحم؛ وجزءٌ من تقاليد الزواج في "المجتمع النابلسي".

في "فقدة المخطوبة" يكون الرقص والغناء والزغاريد وتبادل الأحاديث، انتهاءً بوضع الهدايا أمام الحضور وإعلان أسماء صاحبة كل هدية

و"فقدة المخطوبة" ليست فريدة تحت هذا المسمى. فـ"الفقدة" لها أشكالها المتعددة في مناسبات مختلفة، ومنها "فقدة رمضان"؛ وهذه يتفقد فيها الأب بناته، فيهدي لهن المخلوطة والكعك بأنواعه والفواكه، و"ملبس على لوز وقضامة"، وأحيانًا يمنحها هدية لبيتها أو مبلغًا مالاً لها. وكذلك "فقدة العروس"؛ التي يزور فيها الأهل ابنتهم ويقدمون لها طبق حلويات مزين، و"سنسال" ذهب، وهي تختلف تمامًا عن "فقدة المخطوبة" التي تخص "المخطوبة" حديثًا، حيث تقام بعد أسبوع أو اثنين -على الأكثر- من خطوبتها.

شفاء عاشور، قالت لنا إنها زارت "عرائس" أبنائها جميعًا أثناء خطبتهن، وأرسلت لهن حلويات (بقلاوة وكنافة)، إضافة إلى "تعليقة ذهب" كهدية. واستدركت، "بالطبع فإن الأمر يعود لإمكانيات العريس وأهله المادية، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها".

وانتقلت "فقدة المخطوبة" من مدينة نابلس إلى قرى محيطة بها. ففي دير شرف غربًا، أوضحت لنا سيدةٌ من عائلة زعنون أن "الفقدة" الأخيرة لابنتها اقتصرت على والدي العريس وشقيقته، بسبب تفشي فايروس كورونا، لكنها استدركت بأن "الفقدة" أصبحت دارجة في قريتها بعد تسعينات القرن الماضي، فقد حضرت هي فقدة أختها وخطيبة أخيها أيضًا، لكنها لم تفرح بها، حيث تزوجت سنة 1989.

في كتابه "صفحات نابلسية"، يوضح الباحث هاني العزيزي، أن اختيار مسمى "فقدة" جاء من أن الشاب "يتفقَّد" خطيبته أو "يفتقدها"، ويذكرها بإرسال هذه الهدايا إليها.

 قريبات العريس يزرن منزل "المخطوبة" محملات بالهدايا والحلويات والفاكهة والملابس أحيانًا، وهُنَّ يغنين "كأنها زفة عرس"

ويُبين العزيزي، أن "الفقدة" -بشكل عام- لا تقتصر فقط على عيدي الفطر والأضحى، أو شهري رمضان وشعبان، بل تشمل أيضًا مناسبات دينية أخرى مثل رأس السنة الهجرية وذكرى المولد النبوي، مشيرًا إلى أن الأهل يرسلون الهدايًا أيضًا لبناتهم المتزوجات في هذه المناسبات، "وفي ذلك تعزيزٌ لصلة الرحم" كما يقول.

اقرأ/ي أيضًا: الاستقبالات النابلسية.. رحلة في عالم النساء المنسي

وتكون "فقدة المخطوبة" أجمل إذا صادف موعدها مع شهر رمضان، وفق الكاتبة رندة سقف الحيط في كتابها "نابلس عراقة وشموخ"، حيث يرسل أهل العريس إلى "المخطوبة" في بيتها "سدر بقلاوة نابلسية" مُزيّن بأغصان الليمون الخضراء والزهور المتوفرة في البيت، ويضعون عليها قلادة من ذهب "سنسال أو تعليقة أو عقد آية الكرسي مذهبة، أو حرف ذهب"، بينما توزع والدتها الحلويات على الأهل والجيران.

تمام عبده، قالت لنا، إنها تشارك في "فقد" المخطوبات منذ 42 عامًا، سواءً من عائلتها أو من الأقارب، مبينة أن قريبات العريس يزرن منزل "المخطوبة" محملات بالهدايا والحلويات والفاكهة والملابس أحيانًا، وهُنَّ يغنين "كأنها زفة عرس".

تشير عبده هنا إلى أهمية الهدايا وتباهي "القريبات" بهن أمام الجميع، مضيفة أنها خلال "فقدة" حفيدتها -مثلاً- أرسلت هديتها قبل أيام من "الجَمعة"، ثم عند استعراض الهدايا، اضطرت للإعلان أمام الجميع أنها أحضرت هديتها قبل أيام، فهي، وفق قولها، "لا تقبل أن تكون أقل من غيرها، أو أنها لم تقم بهذا الواجب حسب العادات والتقاليد والأصول".

تتأثر زيارات "الفقدة" بالظروف التي يمر بها المجتمع؛ سواء سياسيةً أو اقتصاديةً أو اجتماعيةً

وتتأثر زيارات "الفقدة" بالظروف التي يمر بها المجتمع؛ سواء سياسيةً أو اقتصاديةً أو اجتماعيةً، فالسيدة خديجة الدبيك حُرِمت من "الفقدة" خلال فترة خطوبتها سنة 1973، حيث وقعت حرب تشرين بين جيوش عربية والاحتلال الإسرائيلي.

اقرأ/ي أيضًا: الختامة.. فرحة اندثرت في نابلس

وتضيف، أنها حضرت "فقد" كثيرة، مبينة أن أهل "الخطيبة" يحضرون من طرفهم الحلويات والمكسرات والأراجيل، بينما الضيوف عليهن تحضير الهدايا من لوازم العروس. وتابعت، "هناك مثل يقول: من عزمك لزمك. فمن يتم دعوتها يجب أن تحضر هدية للفتاة المخطوبة. وقبل رحيلهن يظهرن الهدايا ويُسمّين كل هدية من مقدمتها".

ويبدو أن إدخال "لوازم" العروس -الملابس وغيرها- إلى الهدايا طرأ حديثًا على الهدايا، وفق السبعينية باسمة الجد، فالهدية في السابق كانت "سدر كنافة أو بقلاوة مزين، وملبس بأنواعه، وحلويات وفواكه".

يعزز هذا الاعتقاد، الكاتب مالك المصري في كتابه "نابلسيات" -الذي وثق عادات وتقاليد المجتمع النابلسي في بداية القرن العشرين-، حيث يبين أن الهدايا من التحف والزهور والأدوات المنزلية عادةٌ مستحدثة ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، "عندما ظهر أغنياء الحرب، واقتبسوا بعض العادات الغربية مبالغين فيها مبالغة كبيرة".

الكاتب مالك المصري: الهدايا من التحف والزهور والأدوات المنزلية عادةٌ مستحدثة ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية

بالعودة إلى الجد، تقول: "شخصيًا، أحضروا لي أمتارًا من القماش وفاكهة وحلويات، لكن اليوم يحضرون الملابس أكثر". وتابعت، "لم تكن هناك سيارات وكان الناس قريبين من بعضهم البعض، فيبلغونهم أنهم سيحضرون ويخرجون من باب المنزل بالطبلة ويغنون في الشارع حاملين سدر الكنافة المزيّن متباهين به، مع صناديق الفاكهة، ويقوم المضيفون بالضيافة الواجبة".

اقرأ/ي أيضًا: الكنافة حين تعطي للمدينة شيئًا من مذاقها

وأوضحت، أن "المقتدرين" -حسب وصفها- كانوا يُدخلون الذهب إلى هداياهم في "الفقدة"، لكن هذه الأيام قلَّ إهداء الذهب بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة.

وفي عرض الهدايا تُبين الجد أنهم "كانوا يقولون إن هذا السدر من خالها، وهذه الفاكهة من فلانة. أذكر أن عائلتي في فقدتي أحضروا لي قطع قماش، وبعد الزواج التزمت عائلتي بخياطة ذلك الثوب لي استكمالاً لفقدتي. كما أني خيطت معطفًا من القماش الذي أحضروه لي أهلي ودفعوا 10 دنانير ثمن تخييطه".

وتقول: "كنت قد خُطبت إلى زوجي من المنطقة الشرقية في نابلس، وحينها هذا الزواج كان يعتبر غُربة، فقد كانت نابلس مقسومةً لغربا و شرقا، والفاصل بينهما باب الساحة، المعروف بفصله لمنطقتي الشرق والغرب".

وأضافت، أن أهل العروس كانوا يودعون ابنتهم حتى "باب الساحة" ويبكون، ثم يغنون:

الله معك الله معك

وإن البكى ما ينفعك

وإن كان باب دار أبوكي مسمار

إخلعيه وخذيه معك

والجدير ذكره أنه على اختلاف الفترات الزمنية، كان يظهر مستوى العائلة المادي من خلال ما يُقدم للعروس من هدايا. وبالإجماع، فإن الفُقَد بأنواعها تعتبر واجبًا في المجتمع النابلسي ومن المعيب ألا تتم.


اقرأ/ي أيضًا: 

مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط

أبواب نابلس القديمة.. عملية إنقاذٍ فردية لإرثٍ من خشب القطران