18-مايو-2017

ثمة جدل قائم يشغل نسبة لا بأس بها من الشارع الفلسطيني هذه الأيام، يتعلق أساسًا بتكرار خطوة إغلاق الطرق الفلسطينية الداخلية من قبل شريحة من أهالي الأسرى المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية، وبضع شبان متضامنين غاضبين هنا وهناك.

مبرر هؤلاء هو الاحتجاج على "ضعف الحراك الشعبي المساند للأسرى"، خاصة مع دخول الإضراب المفتوح عن الطعام شهره الثاني، الذي يخوضه أكثر من 1600 أسير فلسطيني.

بنظرة مبسطة، يتضح لنا أن استشعار مرحلة الخطر الحقيقي على حياة الأسرى هو ما دفعهم لهذا الصنع، والذي يعبرّ - شكليًا على الأقل- عن فعل ثوري متمرد، بالرغم من كونه غير موجه نحو الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر.

استشعار مرحلة الخطر الحقيقي على حياة الأسرى دفع مغلقي الشوارع لهذا الصنع، والذي يعبرّ - شكليًا على الأقل- عن فعل ثوري متمرد

وكما المتوقع، اصطدم هؤلاء بنظرائهم ممن هم متوجهين لأعمالهم ووظائفهم وغيرها من مشاغل الحياة اليومية، بعضهم يقود سيارته الفارهة وآخر يستقل سيارة أجرة بشيقلين. في حين ترجل البعض من مركباته معبرين عن استيائهم من خطوة الإغلاق، ومطالبين الشبان بفتح الطريق، فضل آخرون الصمت على مضض، ففي هذه اللحظة تتضارب المصالح الشخصية بالهّم الوطني العام، ويا لقساوة الموقف، وحقارته!

اقرأ/ي أيضًا: مروان البرغوثي ضحية لإعلان ممول؟

بعيدًا عن الآراء المختلفة تجاه الحالة السابقة، التي تحتمل الصواب والخطأ، العقلانية والتعصب، وغيرها من المتقابلات، الحقيقة الدامغة الجلية أن المشهد المذكور مؤشر خطير لما وصلت إليه الحالة الفلسطينية، وما أنتجته المنظومة السياسية الاقتصادية الأمنية من "فلسطينيين جدد" منذ أوسلو، أي ما يزيد عن عقدين.

قيل يومًا "ثوروا فلن تخسروا سوى القيد والخيمة"، أما اليوم فهناك المنصب والوظيفة والراتب الشهري، كما أقساط السيارة والمنزل، والأهم هو الحفاظ على بياض الملف الأمني لاستصدار التصاريح، أو بطاقات رجال الأعمال، وغيرها، وغيرها، وما أكثرها!

منذ أوسلو، يتصرف من يمثــّـل الفلسطينيين كحركة استقلال، لا كحركة تحرر وطني. تشبه تلك التي في كتالونيا أكثر منها في الجزائر ومثيلاتها. استبدلت المفاهيم، وانقلبت الرؤى. المشروع الوطني لم يعد واحدًا، إن وجد أصلا، والهم الجماعي بات بالتالي عملة نادرة.

وفرّت أوسلو كانتونات صغيرة (مناطق ألف) خالية من الجيش الإسرائيلي، خلال النهار على الأقل، وأعفت السلطات الإسرائيلية من أعباء حكم الفلسطينيين المباشر والاحتكاك بهم، وهي معادلة تبقى مستمرة طالما استوفت مناطق الحكم الذاتي تلك شروطه ومحدداته، وتقيدت بالتزامات أمنية وسياسية.

لم تعد السيطرة على الفلسطينيين تستوجب قوة عسكرية بالضرورة (الكولونيالية التقليدية)، بل باتت المهمة أسهل من خلال معادلات سياسية واقتصادية (نيوكولونيالية ربما)، والبحث عن شركاء لتلك المعادلات. فالاحتلال الإسرائيلي بات سهلا، غير مكلف، ويدار عن بعد.

منذ أوسلو أيضًا، العمل الدبلوماسي بات الوسيلة. الدعم كل الدعم له، والويل كل الويل لحراك الشارع، والاستثناء هنا هو الانتفاضة الثانية. نسبة المواطنين "المهادنين" زادت، عن وعي أو دون وعي، ونسبتهم اعتمدت على قدر التضرر المباشر من الاحتلال من عدمه، على اعتبار أنها لم تعد واحدة.

منذ أوسلو نسبة المواطنين "المهادنين" زادت، عن وعي أو دون وعي، ونسبتهم اعتمدت على قدر التضرر المباشر من الاحتلال من عدمه

هل فكرة حكم ذاتي تحت الاحتلال كانت بهذا السوء حقا؟ الجواب يعتمد على مدى موافقة "إسرائيل" على وجودها أصلاً، ومدى ارتهان استمراريتها بالتزامات معينة، من عدمها، وماهية المشاريع السياسية التي تبنتها، أو وافقت على إدخالها لسكان تلك المعازل المبعثرة في الضفة الغربية.

لم يختر "الفلسطينيون الجدد" أن يصبحوا جددًا، فهذا نتاج منظومة من العوامل التي طبخت جيدًا لسنوات، خارجيًا وربما داخليًا، كما لم يختر من أغلق الشوارع أن يستحضر "فلسطينيته القديمة"، شكليًا على الأقل، إلا بعد إدراكه أن مقاومة الاستعمار تستوجب الشكل الثاني، لا الأول.

النقطة الجدلية هنا هي مدى التأثير الإيجابي لهكذا خطوة في نفوس الفلسطينيين. فمنهم من رأى من إغلاق الطرق بالإطارات المشتعلة تذكيرًا بما يجب أن يكون عليه الحال، وآخرون اعتبروه أسلوبًا منفـرًا من العمل الوطني، بل ويؤتي نتائج عكسية.

لم يدِّع هذا المقال أن مغلقي الشوارع هم من "الثوريين" بالضرورة، كما لم يلصق صفة "التخاذل" على المعترضين على إغلاقها أيضًا. تلك كانت دعوة لقراءة ما تعنيه الحالة المذكورة، عوضًا عن تقييمها بالأبيض والأسود بمعزل عن سياقها، والنظر إلى ما وراء المشهد.


اقرأ/ي أيضًا:

السيناريو الإسرائيلي لإنهاء إضراب الكرامة

من المستوطنات إلى قلقيلية.. بريد نفايات!

إسرائيل للحاج رزق: بدناش ياك في البلد