11-يونيو-2019

"تلمسنا عشقه للفن حين كنا نُسافر لمصر أو تونس أو غيرهما، فقد كان همه الوحيد التعرف على الفنانين والتقاط الصور معهم. وحين كبُر قليلاً، اكتشفنا أنه متابعٌ لشؤون الفن والفنانين بشكلٍ غير عادي، فكلما تابع معنا أي فيلم بغض النظر أجنبي أو عربي، كان يخبرنا قصة الفيلم واسم مخرج ومؤلف العمل، وكان يحكي لنا عن حياة كل فنانٍ ظهر فيه، ثم شارك عام 2010 بأربعة أدوار لشخصيات في مسرحية كوابيس". هكذا أجابت أخصائية علم النفس فاطمة قاسم على سؤالنا كيف بدأت علاقة ابنها إبراهيم يحيى رباح (27 سنة) بالفن.

إبراهيم رباح، معاناته من ضعفٍ في السمع والنطق والحركة جعلته يترجم الأغاني والقصائد للغة الإشارة

إبراهيم الآن يغني بلغة الإشارة الخاصة بالصم والبكم، وهو المجال الذي أبدع فيه الشاب الذي يُعاني من إعاقة جزئية في السمع والنطق والحركة، بعد أن تعرض لنقصٍ في الأكسجين أثناء ولادته، إذ أدى ذلك لضمور حُجرات النطق والسمع في الدماغ، فأصابه ضعفٌ في السمع وهو يسمع بنسبة 15% حاليًا، كما أُصيب بضعفٍ في النطق، وتأثرت قدرته على الحركة لكنها تحسنت قليلاً مع التقدم في العمر ونتيجة ممارسة الرياضة.

شاهد/ي أيضًا: فيديو | دبكة على كراسي متحركة في غزة

حصل إبراهيم في عام 2018 على درجة البكالوريوس في تنمية المجتمع المحلي من جامعة القدس المفتوحة، وعن فترة دراسته تقول والدته: "كان هناك برنامجٌ خاصٌ لمجموعة من الصم في الجامعة، بحيث يكون هناك مترجم إشارة في كل المحاضرات، إلا أن إبراهيم أصر على أن يدرس مع الطلاب العاديين، فكان يحضر المحاضرة ويشارك فيها على قدر ما يتمكن من سماعه، وحين يعود للمنزل يبذل جهودًا إضافية".

وأضافت، "حصل إبراهيم على تقدير جيد جدًا. وهذا دليل على قوة الإرادة التي تمتاز بها هذه الفئة من المجتمع".

إبراهيم مع غادة عبد الرازق

يحتفظ إبراهيم بصورٍ التقطها مع فنانين عرب في طفولته، وهذه -كما تقول أمه فاطمة- كانت علامة مبكرة لاهتمامه بالفن ورغبته بدخول هذا المجال، مبينة أنه كان يُحب مشاهدة الأغاني والرقص معها لخلق جو فرحٍ له ولمن حوله في المنزل.

إبراهيم مع الفنان حسن حسني
إبراهيم مع الفنان مدحت صالح

وأضافت، "تطورت قصة تلك الميول عندما بدأ يكبر، وكثيرًا كان يسألني، لماذا تترجم الأخبار فقط إلى لغة الإشارة؟ رغم أن الصم كغيرهم يحبون أن تترجم لهم الأفلام والمسلسلات والأغاني، كي يفهمون ما يجري؟ ولأجل التخلص من أسئلته الكثيرة قلت له: هذه الفئة تخصك، فإن كنت تشعر أن هناك تقصير من الجهات التي تنتقدها تجاهكم، واستطعت القيام بترجمة الاغاني التي تحبها إلى لغة الإشارة، تفضل وبادر واعتبر أن هذه هي مهمتك لأجلهم ولأجلك".

قبل عام، طلب إبراهيم من أمه فاطمة أن تُشاهده وهو يؤدي أغنية "صافيني مرة" لعبد الحليم حافظ بلغة الإشارة، تقول: "فعلاً كان مبدع في الأداء، وكان الإحساس فيها غير طبيعي، حتى أن لغة الإشارة كلها سليمة".

وأضافت، "كانت تزورني يومها صديقةٌ قادمة من ألمانيا، فأحبَّت طريقته وصوَّرت الأغنية ونشرتها عبر موقع يوتيوب، فقلت لنفسي طالما نجحت الفكرة، لم لا يستمر في ذلك؟ فهو على الأقل يحمل رسالة تفيده وغيره، لكنني شدَّدت عليه أن لا تستغرقه الحالة قبل أن يحصل على شهادة الجامعة، فكان هذا عامل تشجيعٍ إضافيٍ للنجاح في الجامعة".

أول أغنية ترجمها إبراهيم رباح إلى لغة الإشارة كانت "صافيني مرة" للفنان عبد الحليم حافظ

بعد حصوله على الشهادة الجامعية، ازداد تركيزه على مشروع ترجمة الأغاني إلى لغة الإشارة، تُعلق أمه: "الحقيقة أنني وجدت فيه طاقة عجيبة، فقد أدى عشرات الأغاني للكثير من الفنانين منهم محمد عساف ومحمد عبده ونوال الزغبي وديانا حداد".

اقرأ/ي أيضًا: أبو علاء.. كفيف يشاهد المباريات من الملعب

آمنت فاطمة بقدرات إبراهيم، فشجّعته على أن يؤدي قصيدتين للشاعر محمود درويش، تقول إنها أرادت بهذا الطلب أن "يثبت قدراته ويُصبح لديه تنويع"، مضيفة، "أداؤه كان مبهرًا، فالقصائد تتطلب جهدًا كبيرًا، حيث تكون هناك كلمات صعبة كما في قصيدة هو هادئ وأنا كذلك".

تُبين فاطمة، أن إبراهيم قبل أداء وتسجيل ونشر أي أغنية يرغب بترجمتها، وأثناء فترة التدريب عليها، يُغير صورة بروفايله على فيسبوك إلى صورة الفنان أو الفنانة صاحب الأغنية، وقد كانت آخر أغنية غنّاها حتى نشر هذا التقرير أغنية "يا ليلة العيد" للفنانة أم كلثوم، وذلك عشية عيد الفطر.

وقالت: "يستغرق إبراهيم في الحالة، وأداء الأغاني بلغة الإشارة أصبح هدفه في الحياة، حتى أنه رفض تقديم طلبات بحثًا عن عمل، فهو لا يُريد سوى هذا العمل، وإن كان سيقبل بأيٍ عملٍ فيُريده مرتبطًا بالفن. كما أن ترجمة الأغاني للغة الإشارة رسالةٌ بحد ذاتها أكثر من كونها أغنية بالنسبة لإبراهيم، لأنه يقدمها للفئة التي ينتمي لها".

أنشأ إبراهيم قناة على موقع "يوتيوب" لنشر إنتاجاته من الأغاني والقصائد المترجمة، كما كرّست والدته حسابها على موقع "فيسبوك" لتسليط الضوء على ما يُنتجه، وللمساهمة في انتشاره خاصة أن بين أصدقائها كتابٌ ومخرجون وممثلون إضافة لـ"مثقفين ملتزمين" فلسطينيين وعرب.

 وأوضحت فاطمة، أن أداء الأغاني بلغة الإشارة ساعدها على معرفة معنى الإشارات، "بل أن أصدقائي أصبحوا يخبرونني بأن هذه الإشارة تعني هذه الكلمة أو تلك. أما زملاؤه من الصم فهم بلا استثناء يدعموه، وبشكل عام فإن أكثر من 98% من التعليقات على الفيديوهات فيها دعمٌ وتشجيع".

إبراهيم مع الرئيس الراحل ياسر عرفات

يتجهز إبراهيم الآن للمشاركة في مؤتمر دوليٍ ستسضيفه جمعية الهلال الأحمر في مقرها بمدينة رام الله خلال شهر تموز/يوليو المقبل، وستُشارك فيه دولٌ ومنظماتٌ دوليةٌ إضافة للفنانين لطفي بشناق ومحمد عساف، وقد طلب "الهلال" من إبراهيم أن يؤدي أغنية أجنبية بلغة الإشارة، فسارع إلى إتقان الأغنية قبل أن يأتيه المدرب المنتدب له لهذه الغاية.

سيُشارك إبراهيم رباح في مؤتمر دولي، وقد أتقن الأغنية المطلوب منه ترجمتها قبل أن يأتيه المدرب

ترى فاطمة، أن الصم والبكم يعيشون واقعًا صعبًا بين ظلم المجتمع وعجز القوانين السائدة، "فالقوانين غير قادرة على أن تُقدم شيئًا حقيقيًا لهذه الفئة. لذلك نطالب الجهات الرسمية الاهتمام بهم وإنشاء مدارس خاصة أو دمجهم، فحتى ما هو موجود حاليًا حالاتٌ فردية".

وتصف المجتمع بأنه "ظالمٌ وسلبي ولا يتقبل ذوي الإعاقة ولا يهتم بهم. حتى بعض الأسر نفسها هي سلبية تجاه أولادها الذين يعانون من هذا النوع، فبدل أن يكون وجود هذه الحالة الإنسانية في الأسرة وسامٌ على الصدر أو تاجٌ على الرأس، ترى هذه الأسر تتهرب من أولادها وتخجل بهم".

وتضيف، "الأسرة تلعب دورًا مهمًا جدًا في هذا الموضوع، ويجب أن تكون الأُسر على قناعةٍ أنه لا يوجد مستحيل في الحياة. من لديه حالةٌ إنسانيةٌ عليه أن يطرق كل الأبواب حتى بوابة المستحيل، لأن هذه الفئة لديها قوةٌ عجيبةٌ وطاقاتٌ كامنةٌ غير عادية، ومن يبحث عنها سيستخرج جواهر نادرة".

تُشير فاطمة إلى أنها تُسعى لأن لا يكون ابنها إبراهيم "حالة فردية"، بل تأمل بوجود مؤسسةٍ يتشارك فيها إبراهيم مع زملائه القادرين مثله على القيام بمثل هذه الأعمال، "لأننا بحاجةٍ كمجتمعٍ للغة للتواصل مع الصم والبكم لتسهم في دمجهم في المجتمع، ولغة الإشارة هي جسر التواصل".


اقرأ/ي أيضًا: 

فيديو | "ولكم احنا عاجزين.. حنوا"

ذوو إعاقة يشتكون من إهانات واستغلال في وسائل المواصلات

شبان وشابات يتعلمون النطق بالكاميرا