14-يونيو-2018

رام الله مساء الأربعاء (صورة: عصام الريماوي/ Getty)

في مفارقة عجيبة، يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرار يُدِين "استخدام إسرائيل المفرط للعنف"، في تعاملها مع مظاهرات قطاع غزّة، إضافة إلى إقرار حماية دوليّة للفلسطينيين، بينما، وفي اليوم ذاته، تعتقلُ السلطة الفلسطينية في شوارع رام الله ما يزيد عن 40 شخصًا، يختفطون من وسط المظاهرات، يسحلون في الشوارع، يضربون بالهراوات وبالأيدي وبالأرجل والجزم العسكريّة، ينكّل بهم، يشتمون ويُهانون، في عمليّة تشبهُ بحذافيرها قمع الاحتلال الإسرائيليّ لمظاهرات الفلسطينيين واعتقال المستعربِينَ لهُم من وسط المظاهرات. المفارقة تطرحُ الأسئلة وتُضيفُ علامات التعجُّب والدهشة؛ مَن يَحمي الفلسطينيين مِن السُّلطة الفلسطينيّة؟!

  السُّلطة لا تخشى في قمعها لَومة لائم أو غضبَة أهل البِلاد الذين استنزفتهم واستنزفت دماؤهم وكرامتهم وقوت يومهم وخبزهم وحتى سجائرهم   

كانت "موقعة العار" إذن، كما اصطُلح على تسميتها في السوشال ميديا، واصطدم المتظاهرون بعقيدة أمنيّة راسخة لدى الأجهزة الأمنيّة، تلك التي ورثوها من الجنرال دايتون، وحفظها التابعون منهم مخلِصِينَ لها كَما لم يُخلص من قبل مُستعمَرٌ لمستعمِرْ.

قبل أيام خرجت مظاهرة تطالب برفع العقوبات عن غزة، وكانت ردّة فعل السُّلطة، أن أصدرت بيانًا فجر الثلاثاء يحظرُ خروج أيّ مظاهرة، وعلَّلت ذلك لعدم التشويش على فترة الأعياد. وقبل التظاهر بساعات، سبَقَ المظاهرة عرضٌ عسكريٌ بجيبّات عسكريّة ضخمةٍ استعرضت كلّ ما تملكه أجهزةُ الأمن المُكلَّفة بحفظِ الأمنِ وقَمعِ أيّ "شغبٍ" أو "تظاهرٍ" غير مسموحٍ به. إلّا أنّ العرض وأسلحَته الثقيلة وتلك الألثمة السوداء والأذرع الطّويلة العريضةُ التي تحملُ الكلاشنكوف الصدئ، كلُّ هذا لَم يُجدِ نَفعًا، فوقعت الواقعة.

إنّ الجغرافيا الضيّقة للمدينة تضَع السُّلطة والمَدينة نفسها فِي موقفٍ جدّ بشَعٍ ومُحرج؛ فالمظاهرة لم تخرج لنصرة مسلمي البورما، بل خرجَت للمطالبة برفع العقوبات عن قطاع غزة "الشَّقيق" على سَبيل السُّخرية ممّن وضع العقوبات، والمظاهرة كذلك لا تجري في لندن، فهي تَجري في الضفة الغربية، في رام الله "الشقيقة" أيضًا، لقطاع غزة المحاصر من الشقيق والعدوّ، ورام الله تحتفل بالعيد القَريب، المحلّات التجارية لا يجري شيءٌ عليها وتبيع كعادتها، ينعَمُ أهلُ رام الله بنعيم شقائهم تحت حكم سلطة رام الله، ولا ترغَبُ لا السُّلطة ولا أهلُ المدينة بمجموعة من "الرّعاع" كما تراهم، فِي أن يُوقظوا في أهل المدينة حسّها البَشِعْ بنفسها، ولا أن يُشوِّشوا مشهديّة الاحتفال في مدينة تنعَم بالأمن والأمان والاستقرار.

فرام الله كمدينة، هي كلُّ ما تملكُ السلطة من مشهديّة جغرافيّة وحضَريَّة، وشارعُ ركَب تحديدًا وميدانُ الشهيد ياسر عرفات، أساسيِّين في هندسة هذه المشهديّة في مناسباتٍ كالأعياد المسيحيّة وأعياد المسلمين ومناسبات أخرى كثيرة، وأيُّ تعدٍّ على هذين الموقعين هو تَعدٍ بالأساس على البِناء الاقتصاديّ والأمنيّ والسياسيّ الذي شيّدتهُ السُّلطة وتحتفلُ بِهِ وترعى احتفاليّتهُ هذه في كلّ حينْ.

   في ساعات المساء خرجت المظاهرة، والجُغرافيا الضيّقة للمدينة، لعبت دورًا أساسيًا في صياغة ما عرَّفه أحد ضبّاط الأمن بـ"المبررات الأمنيّة" التي تحظرُ التّظاهر     

في ضفّة النهر الشرقيّة، تظاهر المحتجّون في عمّان لما يزيد عن أسبوعٍ، احتشدوا يومًا بعد يوم، وصلت أعدادهم بعشراتِ الآلافْ، لم يُصِبهُم أذى من أي درَكيٍ أو عنصر أمنٍ أردنيّ، أمّا في الضفّة الغربيّة من النهر، تظاهر البعض قبل أسبوعٍ، ثمّ عادوا للتظاهر مرة أخرى فسُحِلوا في الشوارع وضُرِبوا بالهراوات واعتُقِلوا ورُمِيوا بقنابل الغاز وقنابل الصوت تحت وابلٍ من الشتائم والتهديدات ومنع الصحفيين من التصوير وسلبهم كاميراتهم والاعتداء عليهم.

أيّة مفارقة! إلّا أنّ النتائج في الحالتين، وخلفيّات المشهدين، تُبيِّن عمق الأزمة التي تعيشُها الضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية. ففيما عدا الأسباب الحقيقيّة والتي اعترفت بها الحكومة الأردنيّة للاحتجاجات، فإنّ للمتظاهرين في عمّان، عُمقًا شعبيًا واسعًا، إضافةً إلى توازنات قبلية وعشائريّة ومجتمعيّة تحفَظُ دمَهم وكرامتهم وذلك أمرٌ تعترفُ به السُّلطات الأردنيّة وتقدِّره في مقابل تفاهماتٍ أخرى لا مجال لسردها هنا.

أمّا فلسطينيًا، وفي رام الله تحديدًا، فليس للمتظاهرين من عمقٍ شعبيٍ، وليس هنالك مجتمعٌ عشائريٌ أو قبلي أو مدني يحفَظُ دمَهُم أو كرامتهم، أي ليس هنالك من أحد يُحاسبُ السلطة على أفعالها، وبكلماتٍ أخرى: إنّ السُّلطة لا تخشى في قمعها لَومة لائم أو غضبَة أهل البِلاد الذين استنزفتهم واستنزفت دماؤهم وكرامتهم وقوت يومهم وخبزهم وحتى سجائرهم.

وفي حالة مجتمعيّة مترهّلة كالسابق وصفها، كان لا بدّ من نزوعٍ إلى القوّة بهذا الحجم وبتلك الوحشيّة، للتأكيد على نزعةٍ ثابتة لاستخدام قوة لا هوادة فيها عند الضرورة، وهي أيضًا وحشيّة لدى أجهزة الأمن تنبع من اعتقادٍ راسخ أنّها تتعامل مع مجموعة من "الرّعاعِ" الذين يجبُ سحقُهم، والسَّحقُ هنا ليس مبالغةً. ومن غير الممكن ألّا تظنُّ الأجهزة الأمنيّة بالمتظاهرين "رعاعًا"، بعد أنّ عبّأت لافتات البيعة شوارع رام الله قبل أسابيع، وأيضًا، حين لا تجد سوى عشرات العشرات من المتظاهرين في شارع يعجُّ بالمشتَرينِ والبائعين.

ولن يكون من المبالغة القول أنّ لا ريب في أنّ أغلبيّة عظمى من سكان رام الله قد شاركوا في قمع هذه المسيرة، في منحهم السلطة تصريحًا بصمتهم باستخدام الجبروت العسكريّ والقمع، لأنّ عدد قوّات الأمن قد فاق عدد المتظاهرين، ولأن عدد لافتات المبايعة قد فاق عدد المتظاهرين، ولأنّ للسلطة "مجتمعًا" صالحًا يحتضنُها وترعاه ويرعاها ويَحميها من "رعاعه" الخارجين عنها وعنه فعلًا وقولًا.

يسهلُ اتخاذ قرار القمع، بل يُصبحُ ضرورة من حين إلى آخر استعراضُ هذه القوّة، وليسَت القوّة بحدّ ذاتها هي المُستعرضة بقدر ما "إرادة تنفيذ القوّة" هي التي استعرِضَت بالأمس، أي القُدرة على القمع بأشدِّ الوسائل وأقذَرها مجتمعة. شُرطة بلباسها الأمنيّ مدججة بالسلاح، عناصر أمنٍ وطني، عناصر شرطة ملثّمة، عناصرُ أمنٍ بزيّ مدنيّ، ولكلٍ دوره ومكانه في إكمال مشهديّة الإرهاب الرسميّ الذي تمارسه السلطة. فالشُرطيّ بسلاحهِ وهراوتهِ يُوحِي بالتصريح الرسميّ بالضّرب والاعتقال، وعنصر الأمن الوطنيّ يُوحِي بالجهوزيّة لإطلاقِ الرّصاص، وعنصر الشرطة الملثّم يُمارسُ الإرهابَ البصريّ وله مساحتهُ الأكبر تحت رداء الخصوصيّة هذا أن يقذفَ ما تشاء يداه من قنابل غاز وصوت على بعد أمتارٍ من المتظاهرين، وعنصر الأمن بالزيّ المدنيّ الذي يخلطفُ ويمسكُ من الرقبة ويؤلم ويرهبُ لأنه يوحي بانعدام أي قانونٍ بإمكانه حمايتك، فإنت في قبضة البلطجيّ بإذنٍ ومباركةٍ من السُّلطة. 

هذي عناصرُ المشهد الأمنيّ، وعلى الرّغم من الاعتداء على الصحفيين، إلّا أنّه لم يكن بقصد المنع الكامل للتصوير – فالصورة المخرجة من مشهدٍ كهذا ضروريّة في عملية إكمال عناصر الإرهاب النفسيّ والجسديّ الذي تمارسه السلطة – إلّا أنه كان توسيعًا لممارسات القمع والإرهاب بحيثُ تشملُ من لا يجبُ أن تشملهم وبذلك تكون حققت كامل رؤيتها وهي أن تثبِّتَ صورةً مرعبةً عن نفسها لا تُخطِئها عين ترى أو أذن تسمع.


اقرأ/ي أيضًا:

عن الدعوة البائسة للغضب: أن تكون عبدًا للقانون

قانون الجريمة الإلكترونية: الأخ الأكبر يراقبك!

الاستثناء الجغرافي داخل حدود المستعمرة