19-نوفمبر-2016

صورة توضيحية - Getty

المشهد يتكرر في كل بيوت البلاد تقريبًا، هنالك نساء، الكثير منهن، يُحضرن موائد الطعام. أصنافٌ كثيرة يستغرق عملها ساعات من الوقت وكمية لا يعلمها إلا الله من الجهد؛ خاصةً إذا كانت الوجبة فطورًا للصائمين في شهر رمضان. بإمكانك أن تسمع أصوات الملاعق عندما تلامس الطناجر لتحريك ما فيها.

تخيل معي: الكثير من النساء في المطبخ يتحركن بسرعة هائلة في سباق مع غريمهن الأول: الوقت. يحاولن على الاغلب القيام بشيئين في ذات اللحظة؛ كأن يتفقدن ما في الفرن بينما يجهزن الخضار لإعداد السلطة. النساء اللواتي سيبذلن جهدًا هائلاً في طبخ الطعام ثم تهيئة الطاولة سينتظرن جلوس الرجال، فالرجال يجلسون أولاً عندما تكون المقاعد محدودة.

حسناً سنأتي الآن على قصة قاسية، أقسى بكثير من التعب الذي قد تشعر به النساء بعد الانتهاء من الطبخ. في عام 1955 رفضت روزا باركس، وهي مواطنة أمريكية من أصول أفريقية، التخلي عن مقعدها لرجل أبيض، حيث كانت القوانين تفصل بين السود والبيض في وسائل النقل والمواصلات، فالباب الأمامي مخصص لصعود ونزول البيض والخلفي للسود، والمقاعد الأمامية للبيض والخلفية للسود، وفي حال امتلأت مقاعد البيض فإنه يتوجب على السود التخلي عن مقاعدهم للبيض وأن يكملوا الرحلة واقفين.

النساء في بلادنا تتنازلن عن مقاعدهن بكل حب ودون اكتراث أو تفكير لكل التفاصيل التي قد تُفقد الانسان شهيته للطعام

باركس رفضت حينها أن تتخلى عن مقعدها لرجل أبيض، فاعتقلت وأدى اعتقالها إلى بدء الإضراب العام عن ركوب الحافلات الذي استمر 381 يومًا، والذي كان بداية لسلسة من الاحتجاجات التي أدت لاحقًا لصدور قانون الحريات المدنية الذي حرم التمييز على أساس العرق في الولايات المتحدة.

اقرأ/ي أيضا: كريمة.. المصوّرة الفلسطينية الأولى

قد يبدو ذكر قصة باركس بينما نتحدث عن وجبة عائلية أمرًا مبالغًا به بل ومريضًا، ففي هذه اللحظة العائلية الدافئة لا مكان لأفكار المساواة وحقوق النساء، ثم إن النساء في بلادنا تتنازلن عن مقاعدهن بكل حب ودون اكتراث أو تفكير لكل هذه التفاصيل التي قد تُفقد الانسان شهيته للطعام. وهذا أمرٌ جيد حقاً، جيدٌ بمعنى أن هذا المشهد العائلي الذي يفيض بالمشاعر كفيلٌ بتبديد أي قلق يساور الإنسان حول الكوارث والأزمات التي يختنق بها العالم؛ ولو كان ذلك بشكل مؤقت.

وفي هذا المشهد تتجلى عظمة الحب التي تحول كل امرأة في العائلة إلى أم لأي رجل فيها، بينما هي تسأله إن كان يحتاج أي مساعدة في سكب الحساء، أو إن كان يريد المزيد من السلطة، أو يريد أن تقرب له أي طبق على الطاولة ليتذوقه.

في هذا الوقت يمكن للابنة أن تتحول الى أمٍ لأبيها، وللحفيدة أن تصبح امرأةً مسؤولةً بكل حب عن ماذا يحتاج طبق جدها حتى يكون متكاملاً. يتحول الرجال عند الطعام إلى أطفال يحتاجون من يهتم بهم ويفكر في احتياجاتهم ويقدمها على أي شيء، وتتحول الأمومة إلى مهنة تتقنها كل نساء العائلة.

ولكن لماذا نأتي على ذكر قصة باركس إذًا إن لم تكن مهمة هنا؟

ربما سيبدو توظيف قصة باركس منطقيًا أكثر إذا كان الأصل بالتنازل عن المقاعد سببه الشعور بالأفضلية. أفضلية البيض على السود، أفضلية الرجال على النساء، عندها ستكون فكرة المقارنة بين مقاعد الحافلات في أمريكا 1955 ومقاعد المائدة في بيت ما وقوانين أولوية الجلوس دقيقةً تمامًا. فهل تتنازل النساء عن مقاعدهن بسبب شعورهن بأفضلية الرجال عليهن؟ أم بسبب شعورهن بالمسؤولية اتجاههم؟ أم أن الأمرين قد يجتمعان في عقل المرأة رغم تضادهما؟

بين الاحترام والتبجيل شبه الإلهي والحنو الذي لا يليق إلا بالأطفال، هكذا تُعامِل النساءُ الرجال. والأمر لا يتوقف على طاولة الطعام، فطاولة الطعام لم تكن إلا مشهدًا بسيطًا لفكرةٍ أكثر تعقيدًا. والحياة مليئة بهذه الأفكار الأكثر تعقيدًا كالتحرش مثلاً.

فالمتعاطفين مع المتحرشين والمبررين للجريمة من نساء ورجال يرون أن للمتحرش رغبات وحاجات وعلى الفتاة أيًا كان عمرها احترام ذلك ومراعاة احتياجات كل الرجال الغرباء في الشارع وأماكن العمل والمؤسسات التعليمية. عليها أن تتعاطف وتحترم حاجات رجل غريب في لمس جسدها، هذا الرجل الذي قد يكبرها بخمسين عامًا في حال كانت الضحية طفلة والمتحرش عجوز، وقد يكون المتحرش في عمر ابنها في حال كانت هي في أواخر الأربعين وهو يشق طريقه نحو المراهقة. ليس مهمًا المهم أن تراعي هي حاجاته التي قد تشتعل في جسده بمجرد أن يجلس بجوارها في سيارة أجرة.

عند الحديث عن الحاجات الجسدية فإن المتحرش يُعطى ذات النبرة من الحنو والتعاطف. الموضوعان مختلفان تمامًا نعم صحيح، ولكن المنطقة التي يأتي منها التبرير والتماس الأعذار للمتحرش؛ تشبه المنطقة التي تجعل الرجال أطفالا أمام مائدة الطعام. وهي ذاتها التي تجعل المتحرشين أطفالاً أمام جريمتهم!

إنها فكرة عدم تحميل الرجال أي مسؤولية في حال تعلق الأمر بالرغبات. فهل الرجال أطفال أمام الحاجات والرغبات الطبيعية كالجنس والطعام والنوم؟ لذلك قد تجد زوجين يخرجان إلى وظائفهم معًا ويعودان معًا، وبينما يذهب الرجل ليأخذ قيلولة تشمّر المرأة عن ساعديها لإعداد طعام الغداء في الوقت الذي يحيط بها أطفالها بألعابهم وصراخهم وواجباتهم المدرسية.

ولكن ماذا عن العظمة التي يتمتع بها الرجل في مجتمعنا؟ بمعنى ماذا عن هذا الإنسان الهائل القوة الذي يسيطر على كل شيء، كيف يحول نفسه إلى طفل هكذا بكل بساطة؟ وكيف يتجرد من المسؤولية تمامًا عندما يتعلق الأمر برغباته وحاجاته هو؛ وفي المقابل يحمل المسؤولية كاملة عندما يتعلق الأمر باتخاذ قراراتٍ تتعلق برغبات واحتياجات غيره؟

في مقال بعنوان: "خرافات حول التحرش الجنسي" على الموقع الرسمي لمبادرة خريطة التحرش (مبادرة تطوعية تعمل على إنهاء التقبل المجتمعي للتحرش الجنسي في مصر. تأسست عام 2010) يقول الكاتب إن من ضمن أبرز التبريرات للتحرش هي: "لا يمكن للرجال السيطرة على أنفسهم: فالأوضاع الاقتصادية السيئة التي تعيق زواج الشباب؛ والتعاليم الدينية التي تحرّم العلاقات الجنسية ما قبل الزواج، تجبر هؤلاء الرجال على أن يصبحوا متحرّشين".

وفي حديث لغيداء العبسي مديرة مؤسسة "شوارع آمنة" في اليمين مع BBC بالعربي تقول: "من المبررات الشائعة لحوادث الاعتداء الجنسي هو تحميل المرأة المسؤولية بسبب ارتداء ملابس كاشفة ومثيرة، وهو تبرير يمثل إهانة للرجل الذي يردده، لأنه ينظر إلى الرجل على أنه عاجز عن السيطرة على شهواته. حتى إذا كانت ملابس الفتاة مثيرة، في رأي البعض، فإن هذا لا يبرر الاعتداء عليها بأي صورة، وذلك لأنه من غير المعقول أن نساوي المجرم بالضحية."

من منا لم يرَ الصورة الشهيرة التي تحتوي على قطعتين من الحلوى واحد مكشوفة مليئة بالذباب، والأخرى مغلفة ونظيفة تمامًا. ربما تعتبر هذه الصورة الأوسع انتشارًا والأكثر تناقلاً عندما يتعلق الأمر بتلخيص أسباب التحرش وحلوله أيضًا، من وجهة نظر شريحة لا بأس بها من المجتمع.

المعاناة الإنسانية جراء التميز العنصري هي ذاتها، ومصدرها دائمًا واحد، وهو الاعتقاد بأفضلية فئة على فئة أخرى

ورغم أن طرح الحلول العلاجية لجريمة التحرش يبدو موضوعًا شائكًا جدًا ويحتاج وقتًا وجهدًا مجتمعيًا؛ إلا أنه يصبح سهلاً للغاية إن أنت قررت أن تلغي مسؤولية المجرم وتمنحه العذر. حتى في جرائم القتل أوجدت القوانين والتشريعات في كثير من الدول العربية التي تمنح  العذر للرجال القتلة، وتحكم عليهم بالسجن لفترة لا تتجاوز البضع أشهر في حال كان قتل الضحية قد تم على "خلفية الشرف"! يمكنك أن تضع علامات تعجب بالقدر الذي تراه مناسبًا مع نهاية كل نص قانوني يتعلق بالجرائم التي تكون النساء هي الضحية. سيبدو القانون غير منطقي وغير عادل وكأنه أشبه بمزحة غليظة تنتظر أن يخبرك أحدهم "لا لا كنت أمزح وحسب، فهذا أمرٌ لا يمكن أن يكون حقيقيًا".

إن المعاناة الإنسانية جراء التميز العنصري هي ذاتها، ومصدرها دائمًا واحد، وهو الاعتقاد بأفضلية فئة على فئة أخرى، وسن القوانين بناء على ذلك، وخلق ثقافة مجتمعية تدعم هذا الرؤية. فالاعتقاد بأفضلية الرجال على النساء يشبه الاعتقاد بأفضلية البيض على السود أو أفضلية دين على دين أو عرق على عرق آخر، وهي ستبدأ في أبسط الطقوس اليومية كتناول الطعام أو ركوب الحافلة وصولاً إلى قوانين تبرير جريمة قتل.

وكم سيكون أمرًا عظيمًا أن ترفض الفئة "الأفضل" هذا التمييز. أن يرفض رجلُ ما امتيازًا مُنح له دون حق، وأن يختار تحمُّل المسؤولية كاملة عن كل أفعاله بوصفه إنسانًا واعيًا ومدركًا لما يفعله. وأن يرفض أي عذر يمنحه إياه المجتمع لتبرير أخطائه، وأن يكره أيضًا أن يُعامل معاملة خاصة لمجرد انتمائه لجنس معين، فهذا يقلل منه ولا يرفعه. وأن يختار أن يسلك الطريق الأصعب، أقصد الطريق العادي الذي تسلكه الكثير من النساء كل يوم.

اقرأ/ي أيضا:

لا بد أن يكون الوجع العام دائمًا بخير

رحلة شتوية في تراث فلسطين

مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط