25-سبتمبر-2018

حمل السبعيني إشتيان اشتيوي دفترًا وقلمًا، وخرج مبكرًا قبل ساعات دق الجرس لكن بخطوات بطيئة إلى مدرسته مرتديًا ثوبه التراثي الطويل وعمامته على رأسه، وعلى الجانب الآخر من الرصيف، تلميذ آخر في ذات المستوى الصفي، لكن فارق العمر بينهما 60 عامًا.

هذه الصورة المتناقضة، جعلت من الكهل اشتيوي مدعاة لاستغراب الصغار والكبار، ولسان حالهم يقول: "ما بال هذا الختيار يذهب إلى المدرسة بعد هذا العمر؟!". لكنه ألقى بكل هذا وراء ظهره، وانطلق ليخوض غمار التعليم بعد أميّة رافقته منذ طفولته، وينقش حروف لغة الضاد عبر التحاقه ببرنامج محو الأمية وتعليم الكبار.

مسنون يحكون لـ الترا فلسطين تجاربهم في التعليم بعد تجاوز سن 60 عامًا

يقول اشتيوي لـ الترا فلسطين: "وُلدت سنة الـ53 وتوفي والدي قبل أن أدخل المدرسة، وكانت المادة (المال) صعبة جدًا ولم تقدر أمي على تعليمنا مع بعضنا، فعلمت أخي وأنا أطلقتني لرعي الغنم".

[[{"fid":"74448","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":448,"width":252,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرفون عن الأمية في فلسطين؟

يستذكر وهو من سكان رفح أقصى جنوب القطاع: "كان في مدارس كثيرة وسجلت في المدرسة لكن ما ذهبت لها، والتهيت في شغل الزرع والرعي". خلال فترات شبابه وحتى عمر الستين، لم يكن يقدر حتى على تهجئة بعض الحروف لكونه لم يكن له أي علم بها.

في السنوات الأخيرة، أفضى به الحال لافتتاح دكان صغير، وعانى ما عاناه في معرفة طبيعة المواد الغذائية وتواريخها وكل ما يخصها، والأهم بالنسبة له "دفتر الديون" الذي اهتز صوته ضحِكًا باستحضاره له. يقول: "يأتيني الكثير من معارفي يستدين شيئًا من الدكان ويقولي سجل ياحج على الدفتر، وفي بعض الأحيان يرسلوا لي أولادهم الصغار، كنت أضطر للاستعانة بأحد أحفادي أو المارين ليكتب لي أو يقرأ".

إثر ذلك قرر اشتيوي الالتحاق بمحو الأمية منذ عامين، وإنْ كان السبب الأساسي لقراره اختصره في قوله: "كل شيء إذا هويته سويته". درس اشتيوي اللغة العربية والرياضيات والجغرافيا والتربية الدينية. ثم بعد اجتياز العامين، تسلم شهادته للمرحلة الإعدادية، وهو ما يزال يسير في مسيرته التعليمية، إلى أن يصل لمبتغاه في أن "لا يقل عن المتعلمين".

المسن إبراهيم محمود حمد (62 عامًا) وزوجته "أم سامر" (55 عاما) التحقا بالتعليم في هذا العمر، ورغم فارق العمر إلا أن وجودهما في الغرف الصفية كان "من أجمل لحظات حياتهما" التي أوصلتهما لمجتمع الجامعة بنجاح، فأنهاها الزوج، أما هي فتوقفت بعد دراسة الفصل الأول بسبب "مشاغل الحياة".

يقول حمد لـ الترا فلسطين: "تعبت كثيرًا في هذه الدراسة خاصة بعد الالتحاق بالجامعة، بسبب مصطلحات ومواد جامعية لم أسمع بها من قبل، لكني شعرت بمتعة لم أشعر بها في حياتي في أنني أتعرف على شيء جديد".

أنهى حمد القاطن في مخيم النصيرات وسط القطاع تعليمه والتحق بتخصص الرياضيات "دبلوم". لم يكتف بذلك، بل إن شغفه رغم "ضعف الحفظ لديه" دفعه لإكمال دراسته في جامعة الأقصى، فاختار تخصص "تعليم أساسي"، وتخرج من الجامعة مؤخرًا.

ضحك حينما سألناه عن وجوده داخل الغرف الصفية الجامعية في هذا العمر، وقال: "كانت محاضراتنا كوننا كبار في العمر خاصة بنا، إلا أن محاضرات قليلة كنا نلتقي فيها مع شباب. أبدًا لم أخجل من ذاك الوضع، بل كنت أصاحب الشباب وأمازحهم".

ويُبين أنه عانى كثيرًا في المواد المتعلقة بالقرآن الكريم وعلم النفس كونها تحتاج لحفظ، "لكن ها أنا الحمد لله نجحت".

زوجته "أم سامر" التي اصطحبته في المدرسة وبداية الجامعة، قالت: "أنا تعبت كثيرًا وعندي مشاغل في البيت لهذا توقفت، لكن هو بفضل الله استكمل ووصل للجامعة ودرس وهو يعلّم الأطفال". ووصفت ذلك بأنه "شيء عظيم في حياتنا".

يُقال إن "العلم في الكبر كالنقش على الحجر"، في دلالة على ضعف قدرات الإنسان كلما تقدم في العمر خاصة قواه العقلية. لكن المسِن محمد التليني، ردّ قائلاً: "وقالوا أيضًا لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس"، في حديثه لـ الترا فلسطين.

علّم التليني البالغ (66 عاما) كل أبنائه حتى تخرجوا من الجامعات، وهو يرى في ذلك  "تعويضًا عن حرمانه وفشله في أن يكون متعلمًا". لكنه أضاف، "لم يكفني هذا، فكل من حولي متعلمون ونادرًا ما نسمع بإنسان أمي. كنت دومًا أسمع القراّن الكريم وأتحسر على أنني حتى لا أمسكه يومًا لأقرأ".

يعترض التليني على نظام الدوام المتقطع "3 أيام أسبوعيًا"، فهو يريده يوميًا مُتعجلاً تحقيق "أمنية حياته" بالتمكن في التعليم.

ونظام تعليم الكبار في قطاع غزة ينقسم إلى ثلاث مراحل، هي محو الأمية، ثم التعلم الموازي، والدراسات المسائية الخاصة. يشرح ذلك مدير التعليم العام في غزة محمد صيام لـ الترا فلسطين مبينًا أن هذه المراحل تستغرق 10 سنوات.

نظام تعليم الكبار في غزة ينقسم إلى ثلاث مراحل يمكن اجتيازها في 10 سنوات

وأضاف صيام أنه في كل عام يلتحق بهذا النظام ألف شخص بين كهول ومسنين وصغار، موضحًا أن الملتحقين بهذا البرنامج يحصلون خلال عامين على شهادة تساوي السادس الابتدائي، ثم في مرحلة التعليم الموازي التي تليها يحصلون بعد اجتيازها على شهادة الثالث الإعدادي.

يكمل صيام، "بعدها يحق للطالب وفق شروطٍ محددةٍ التسجيل في الثانوية العامة والتقدم لامتحاناتها، ومن ثم الدراسة الجامعية"، مضيفًا، "يتميز تعليم الكبار بأن برامجه ميسّرة ومسهّلة، وهي عبارة عن جرعات تعليمية متدرجة، تبدأ بتعليم إتقان قراءة الحروف وتهجئتها، وتركيبها لكلماتٍ، ثم التدرج في المراحل، لكنه في ذات الوقت جاد له معايير وتعليمات محددة وضوابط مهمة ليكون الملتحق به قادرًا على خوض غمار المسيرة التعليمية".

يؤكد صيام، أن عددًا ممن استفادوا من هذا البرنامج - وهم قِلّة - أعمارهم في سن الستينات والخمسينات ونادرًا السبعينات، مبينًا أن عددًا من الشخصيات المجتمعية الحالية تخرجت من هذا البرنامج، "وهذا يجعله تعليمًا نوعيًا" كما يقول.

وكان جهاز الإحصاء المركزي، أعلن في شهر أيلول/سبتمبر الجاري (2018) أن معدل الأمية في مناطق السلطة الفلسطينية انخفض من 13.9% عام 1997 إلى 3.3% عام 2017، موضحًا أن أكثر من نصف الأميين هم من كبار السن (65 عامًا) فأكثر.


اقرأ/ي أيضًا:

مسنون على الحدود.. دليل الثوار لطريق العودة

قصص حُب من أيام البلاد

فيديو | بماذا تغنى أجدادنا أيام البلاد؟