09-نوفمبر-2022
غزة

مساحة خضراء صغيرة، كومة من الرمال، سماء من غير حواجز، التأمل في سير نملة وتكوين حشرة، أو تربية طائر ومراقبة زهرة. هذه المظاهر الطبيعية البسيطة هي حلم عشرات آلاف الأطفال الذين يعيشون في صناديق اسمنتية مغلقة في قطاع غزة، أشبه ما تكون بسجون اختيارية يعيشون فيها لانعدام الاختيارات أمامهم، في ظل شح الأراضي وغلاء أسعارها بشكل كبير جدًا.

ووفقا لآخر إحصائية لجهاز الإحصاء المركزي فقد بلغ عدد المساكن المأهولة في فلسطين 929,221 مسكنًا، بواقع 594,511 مسكنًا في الضفة الغربية و334,710 مساكن في قطاع غزة.

الأبناء يلجؤون لمضاعفة وقت قضائهم للفراغ على الهواتف المحمولة التي تؤثر على عقولهم وتحد من خيالهم وإدراكهم، وأحيانًا تسبب الأمراض كالتوحد والسمنة وغيرها

السيدة آلاء رجب، عاشت في منزل مستقل ومساحة خضراء سابقًا، ثم انتقلت للعيش في أحد الشقق السكنية حاليًا، وهي، وفق قولها، "أصعب التجارب التي مرت على أطفالها".

وتقول آلاء رجب: "اختلف الأمر كثيرًا على أبنائي، ولم يتوقفوا يومًا عن تمني العودة للعيش في بيتنا السابق رغم صغر مساحته وقدمه، فقد كانوا يستمتعون بكل مظاهر الحياة الطبيعية، يقطفون ثمار البرتقال والليمون، يجنون الزيتون، يراقبون الحيوانات والحشرات، وفي شهر رمضان كنا نتناول الإفطار تحت السماء وفي الهواء الطلق".

وأضافت: "لقد اختلف الأمر الآن بشكل كامل. لم نعد نعيش شيئًا من هذه الطقوس، ولا حتى اللعب بحرية تامة، خوفًا من إزعاج الآخرين، ما شكل ضغطًا كبيرًا علينا جميعًا دون استثناء".

فيما توضح السيدة ملك أبو كرش -التي تسكن في شقة سكنية مرتفعة- أن خلو الشقق السكنية من المساحات المعشبة أثرت على طبيعة اللعب عند الأطفال وحتى الذكريات، فقد كانت سابقًا الألعاب جماعية كالحجلة والغميضة والعنبر وصناعة الأشكال بالرمل وغيرها، حيث تعطي حرية أكبر للحركة والتعامل مع الآخرين والعمل ضمن فريق، وتوسع الأفق وحجم الذكريات، أما الآن فلا يوجد مساحة لفعل ذلك، وإن كانت هناك مساحة ولو قليلة أمام الشقة، لن تخلو من المناوشات والاعتراضات من قبل الجيران.

وأضافت ملك أبو كرش، أن هذا الأمر يشكل تحديًا كبيرًا للأمهات، لأن الأبناء سيلجؤون لمضاعفة وقت قضائهم للفراغ على الهواتف المحمولة التي تؤثر على عقولهم وتحد من خيالهم وإدراكهم، وأحيانًا تسبب الأمراض كالتوحد والسمنة وغيرها، ما يفرض على الأم أن تخلق أمور أخرى تشغلهم فيها بعيدًا عن الأجهزة، أو أن تستسلم لهذا الأمر وسلبياته الكثيرة.

وأفادت أنه بعد زيارتها لكل قريب أو صديق يمتلك بيتًا واسعًا وفيه مساحات خضراء، لا يتوقف أبناؤها عن البكاء ورفضهم العودة للمنزل، لأنه بالنسبة إليهم "سجن" يحد من حريتهم وحركتهم.

وتذكر أنها جلبت لطفلها هدية "دراجة"، استغرب طفلها الأمر ولم يعرف كيفية استخدامها، وحين بدأ اللعب فيها، لم تمر سوى ساعة واحدة حتى اشتكى الجيران من الصوت، ما اضطرها لإيقاف اللعب بها.

في تقرير لجهاز الإحصاء المركزي، أشار إلى أن 77.8% من الأسر في قطاع غزة تعيش في شقق سكنية وفق آخر إحصائية أجراها عام 2020

أما السيدة جميلة بودهكت فتشير إلى أن اللعب بالتراب، والتواصل مع الطبيعة هو أمرٌ معدوم في الشقق، كما تختفي الأنشطة البدنية في ظل محدودية المساحة وعدم تهيئة الشقق لهذا الأمر، وأقلها الركض أو اللعب بالدراجة.

وتبين جميلة بودهكت أن العيش في هذه الشقق يفرض على الأطفال أن تكون معظم أنشطتهم بصرية إما على الهاتف المحمولة أو التلفاز، وحتى إن وفرت الأم أنشطة حرفية وفنية فهذه الأنشطة أيضًا تجعله في سكون بدني لا يستطيع الطفل أن يفرغ كل طاقته فيها.

وأشارت إلى أن الكثير من الأطفال في الشقق السكنية يعانون من نقص الفيتامينات في الجسم وكذلك الكبار، لعدم تعرضهم لأشعة الشمس لوقت كافي، أو اللعب في الهواء الطلق والتعرض للأشعة النافعة.

وفي تقرير لجهاز الإحصاء المركزي، أشار إلى أن 77.8% من الأسر في قطاع غزة تعيش في شقق سكنية وفق آخر إحصائية أجراها عام 2020.

وبيّن الإحصاء في تقرير آخر عام 2021، أن متوسط كثافة السكن بلغ 1.7 فردًا لكل غرفة بالنسبة للسكان في قطاع غزة، في حين أن 8.9% من سكان غزة يعيشون في شقق مكتظة يبلغ متوسط الكثافة فيها 3.6 فردًا لكل غرفة.

من جانبها، أكدت الأخصائية النفسية عطاف العبسي، أن وجود المساحات الخضراء داخل المنزل مهم جدًا، فالحركة داخل المساحات الطبيعية تساعد على نمو الطفل الجسماني والنفسي والعصبي والعقلي بشكل صحيح.

وأوضحت عطاف العبسي لـ الترا فلسطين، أن تربية الأطفال داخل الشقق السكنية مردودها سلبي على الطفل بسبب ضيق المساحة التي تحرم الطفل من فرصة اللعب المناسب، فتشارك الأطفال والكبار الحياة في الشقق السكنية يخلق أجواء مشحونة دائمًا بينهم، لأن الأطفال يرغبون باللعب والحركة، والكبار لا يتحملون الصخب الناتج عن ذلك، وبالتالي حرمان الأطفال جانبًا من حقهم في اللعب وهو ما ينعكس على تكوين شخصيتهم النفسية والاجتماعية.

يحاول الأهالي التخلص من ضجيج أطفالهم بتوجيهم نحو شاشات التلفزة أو الهواتف، وهنا تبدأ الكارثة، بحسب الأخصائية عطاف العبسي، إذ يبدأ الطفل في رحلته نحو الانطواء والتوحد، ويتعرض لمشتتات كبير في عملية التربية

ولذلك يحاول الأهالي التخلص من ضجيج أطفالهم بتوجيهم نحو شاشات التلفزة أو الهواتف، وهنا تبدأ الكارثة، بحسب الأخصائية عطاف العبسي، إذ يبدأ الطفل في رحلته نحو الانطواء والتوحد، ويتعرض لمشتتات كبير في عملية التربية عبر ما يتلقاه من محتوى موجه عبر الشاشات، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على سلوكيات الطفل.

ونوهت عطاف العبسي، أن العيش في الشقق السكنية يحد من نمو الطفل العقلي، فالطفل يكون محصورًا في مشاهد محددة داخل الشقة، وبالتالي يقل تعرضه للبيئة الطبيعية المحيطة، التي تفجر عنده الأسئلة الدائمة والمتكررة وتساعد في نمو عقله وزيادة معرفته وثقافته.

وتوضح، أن الطفل يُحرم من تطوير حسه الوجداني عبر التفكر في خلق الله، فالطفل الذي يعيش في منزل يضم منطقة طبيعية يكون أكثر عرضة للتفكر عبر تساؤلاته الدائمة "الشمس، القمر، النجوم، الكائنات" التي لا يراها داخل شقته.

وتنصح الأخصائية النفسية الأهل محاولة توفير الإمكانيات قدر الإمكان للطفل داخل البيت من خلال شراء ألعاب معرفية تنمي الذهن وتوفير بعض الوقت للعب، والحرص على اصطحابه للمناطق الطبيعية والمتنزهات بشكل دائم ودوري كي يفرغ طاقاته ويشبع حاجته للعب، وكذلك إلحاقه بدورات السباحة والرياضة وغيرها من الأنشطة الحركية.

وحول مدى التأثير الصحي على الأطفال، يوضح أخصائي طب الأسرة أمير عوض أن العيش في الأماكن المفتوحة المتصلة بالبيئة توفر بيئة مناسبة لنمو الطفل العقلي والبدني، لأن التأثير المباشر لعدم التواجد في المساحات المفتوحة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتأخر نمو الطفل البدني نتيجة نقص فيتامين دال.

دراسات في دول غربية أشارت إلى أن الطفل الذي يخرج خارج سكنه ويرتبط بالبيئة الطبيعية من حوله، يكون أقل عرضة بنسبة النصف تقريبًا للإصابة بعدة اضطرابات نفسية، أهمها الاكتئاب وطيف التوحد والفصام

وأكد أمير عوض لـ الترا فلسطين وجوب تعريض الطفل لأشعة الشمس المباشرة في أوقات معينة للحصول على التفعيل المناسب لهذا الفيتامين المهم جدًا في عملية امتصاص الكالسيوم الضروري لنمو العظام.

وأشار إلى انتشار الكثير من شكاوي الأمهات من تأخر عملية التسنين لأطفالها وتأخر المشي وغيرها، وهي جميعها مشكلات مرتبطة بما سبق.

وعلى صعيد النمو العقلي فإن دراسات في دول غربية أشارت إلى أن الطفل الذي يخرج خارج سكنه ويرتبط بالبيئة الطبيعية من حوله، يكون أقل عرضة بنسبة النصف تقريبًا للإصابة بعدة اضطرابات نفسية، أهمها الاكتئاب وطيف التوحد والفصام، كما يبيّن أمير عوض.

وشدد أمير عوض على ضرورة أهمية تواصل الطفل بالبيئة من حوله، كونها تنمي له القدرات والمهارات التي يحتاجها حين التعامل مع الآخرين، وكذلك زيادة ثقته بنفسه وتخفيف التوتر والقلق.

دلالات: