في غزة التي لم تضع الحرب فيها حتى اللحظة أثقالها، يمتد لهيب العذاب ليبتلع في أيامه كُل مبعثٍ للحياة. انقلب كل شيء، وغرقت التفاصيل الصغيرة في مستنقع الدمار، تلك التفاصيل التي كانت جزءًا طبيعيًا من الروتين اليوميّ، تحوّلت إلى أحلام تلوح في الأفق البعيد، قريبة من الاستحالة، عصية على التحقق.
من المدهش أن تجد الجميع في غزة يتفّق على حلم بسيط وغريب: "حياة بلا شحبار"!
ومع استمرار حرب الإبادة الإسرائيليّة تذبل في غزة أبسط مقوّمات الحياة، فالحرب لم تسرق البيوت والأحلام الكبرى فقط، بل سرقت من الغزيين تلك اللحظات اليومية التي تمنحهم الشعور بالطمأنينة والكرامة.ومع كل قصف جديد، تتساقط أجزاء من تلك الأحلام، ليظل السؤال معلّقًا: متى تعود الحياة لتكون طبيعية؟
النوم بسلام
تخيّل أن أبسط أحلامك هو أن تضع رأسك على وسادة ناعمة، بدل كومة ملابس بالية، وأن تلتحف بغطاء دافئ يحميك من صقيع البرد، بدل أن تلتف بجاكيت قديم، هذه أشد الرغبات التي تتوق أسماء النجار، الأم لأربعة أطفال، إلى تحقيقها.
وتقول أسماء: "أريد أن أغلق عيني لليلة واحدة، أستمتع فيها بهدوء الليل، دون أن تعكّر صفو سكونه أصوات الطائرات. النوم هنا أصبح رفاهية بعيدة المنال، فقد مرّ أكثر من عام ولم أذق طعم السكون".
جدرانٌ تُؤوي
لم يكن فقدان البيت مجرد خسارة مادية بالنسبة لسامي أبو حسين، الرجل الخمسيني الذي لطالما كان منزله ملاذًا آمنًا يحميه من عناء الحياة. اليوم يتحرّق شوقًا لأن يستند على جدرانه ويغلق عليه بابه، لكن الواقع كسر حلمه، كما يقول.
اليوم يجلس محاطًا بأكياسٍ من الرمل، لا شيء يسنده في خيمة بلا خصوصيّة، يتجرّع فيها مرارة الذكريات، ويصرخُ فيه الحنين إلى أيام كانت فيها الأبواب مغلقة على الأمل، لا على الفزع.
سيرٌ بلا موت
بحسرةٍ، يروي محمد المدهون، سائق التاكسي السابق: "كانت حياتنا بسيطة، نتجوّل بحرية في الشوارع، وفي أي ساعةٍ نريد، دون خوفٍ أو قلق، لم يكن الأمر يتطلب سوى بضع دقائق لتلبية أي طلب، الخروج إلى الشارع وشراء ما نحتاجه كان جزءًا من يومنا، تبدلت الأمور تمامًا، فلا أمان، ولا حياة"
ويضيف: "حتى إذا مرض أحد أطفالك أو جاء المخاض لزوجتك، يصبحُ الخروج بمثابة سير على حبال الموت، والذهاب إلى المستشفى مخاطرة مجهولة المصير، تُحصي معها أنفاسك".
أن نكون معًا
لم ترَ الشابة هديل سلامة عائلتها منذ أكثر من عام، وهو أطول غياب فرضه القدر عليها في حياتها التي كانت مليئة بالدفء العائلي. تتذكر تلك اللقاءات التي كانت تجمعهم تحت سقف واحد، في حضن الوالدين وبين ضحكات الأخوة.
تقول بأسى: "لم أحبَّ شيئًا في هذه الحياة كما أحببت تلك اللحظات، حين كان حُبُّ العائلة يغمرنا، وكان المنزل يضمُّ أحلامنا الصغيرة والكبيرة. اليوم، تحولت تلك اللقاءات إلى حلم بعيد المنال، لم أعد أستطيع حتى زيارتهم، وكأن كل وجه أحببته يتلاشى مع الأيام".
وتتابع: "نعيشُ في نفس المدينة، لكن بغربة مريرة، حاجزٌ لعين يقف بيننا، وما كان يومًا مجرد مسافات أصبح اليوم حياةً كاملة مشحونة بالخوف، والعجز، وفقدان الأحبة. في كل يوم أتمسك بحلم اللقاء، لكن الاحتلال سلب منا أبسط حقوقنا، وهي أن نكون معًا".
تحضننا الأماكن
بينما يتلاشى صوت الماضي، يختنق الشاب محمود رجب بالحنين إلى ذكريات أيامه الجميلة. يقول: "كان المقهى الذي أزوره يوميًا على شاطئ البحر ملاذي من ضجيج الحياة، لكنّه اختفى تمامًا واندثر تحت الأرض".
ويضيف: "لقد شوّهوا ذاكرتي وسرقوا مني كل لحظة جميلة، فكل زاوية وكل شارع وكل مقهى كانت تحمل ضحكاتنا وأحلامنا تحولت إلى ركام. لم يعد هناك مكان يحتضننا أو يذكّرنا بما كنّا عليه، كل الأماكن التي كانت مأوى لأحلامنا أصبحت مجرد ذكريات محطمة، والخراب هو كل ما تبقى من حياتنا".
تُجبر الأحلام
تحمل تسنيم عبد الله، أمنيات أبنائها في قلبها المثقل بالحزن، وتقول بعينين دامعتين: "كان التعليم والذهاب إلى المدرسة أو الجامعة جزءًا أساسيًا من حياتنا. حلم نسعى لتحقيقه بكل شغف، لكن اليوم، أصبحت المدارس مهدمة، وملاذات التعلم تحولت إلى أنقاض".
وتضيف: "الدروس التي كانت تنشر الأمل في قلوبنا أصبحت مقطّعة، كأنها شظايا أحلام محطمة، مستقبل أبنائنا معلق على حافة المجهول، وكل يوم يمضي يسلب معه مزيدًا من الفرص التي كانوا يحلمون بها".
كبسة زر
أحلام صغيرة قد لا يدركها كثيرون خارج غزة، لكنها أصبحت في الداخل مطاردة شاقة خلف ما كان يومًا، بديهيًا. يُمضي الفتى حمزة أبو هاشم يومه غارقًا في مهام تفوق عمره، تثقل كاهله وكأن الزمن قد قفز به سنوات.
يقول بصوتٍ منهكٍ: "طاقتي مستنزفة تضيع في الركض خلف الشاحنات لتعبئة المياه، ونقلها لمكان نزوحنا، والذهاب لنقطة شحن الهواتف وبطاريات الإضاءة، ولا يمكنني نسيان ذلك لأننا سنغرق ليلاً بظلام دامس ومخيف".
ويضيف بلهجته البسيطة: "والله كل هذا التعب ما كان ياخذ منّا زمان غير كبسة زر، اليوم كل شيء بدنا نعمله، لازم ينهد حيلنا فيه".
كوبٌ سهل
الحرب لم تترك في غزة جرحًا على الأرض فقط، بل طعنت كل تفاصيل الحياة، حتى باتت المرارة تملأ أفواه الجميع، تتسلل إلى كل لحظةٍ وكل لقمة.
تقول سما صبّاح، بملامح يغمرها التعب: "أحلم بلحظة واحدة أتذوق فيها الطعام دون أن تختلط به رائحة النيران وذرات الرماد المتطاير، كان إعداد وجبةٍ بسيطة لا يستغرق مني سوى دقائق، أما اليوم فأمضي ساعات في السعي لتحقيق أبسط الأمور".
وتضيف: "كل لقمة أصبحت ثقيلة، مغموسة بالتعب والخوف، أتمنى فقط أن أتناول كوبًا من القهوة بسهولة، دون أن يكون كل شيء حولي معركة مستمرة، لقد فقدنا حتى شهيتنا للطعام، نأكل فقط لنواصل معركة البقاء، لا أكثر".
بدون شُحبار
من المدهش أن تجد الجميع في غزة يتفّق على حلم بسيط وغريب: "حياة بلا شحبار"، هنا، لا مهرب من سواد يغمر كل شيء؛ غبار القصف الذي يتسلل إلى الأنفاس، الركام الذي يملأ الطرقات، نيران الحطب التي تتصاعد منها أدخنة متواصلة، ولسعات الشمس الحارقة، حتى الأواني لم تسلم من سوادٍ يلتصق بها.
تقول فاطمة أبو حمام، بنبرة يكسوها الحنين: "أشتاق لملابسي الفاتحة، تلك الألوان التي كانت تملؤني بالبهجة، اليوم، أصبح السواد هو الخيار الوحيد، كأن الحياة نفسها باتت تغرق في لونٍ قاتم لا مفر منه".
صوتُ حياة
في غزة، سُرقت أصوات الحياة وحلّ محلها صمتٌ ثقيل لا يشبه المدينة التي كانت تعج بالحركة والبساطة. علي المدهون، في الثلاثين من عمره، يسترجع في ذاكرته أصوات الفرح التي كانت تملأ أيامه.
يتذكر بشوق: "كل صباح كنت أستيقظ على نداءات بائع الكعك، أصوات العصافير تغني مع صياح الديكة، وزمامير الباصات المدرسية تضج بالحياة، اليوم، اختفى كل شيء، الصمت المطبق هو سيّد المكان، حتى أبسط الأصوات باتت تدهشنا إذا سمعناها من بعيد".
ويتابع: "مر عامٌ كامل ونحن نفتقد الضجيج الذي أحببناه، ضحكات الأفراح، تجمعات المسنين عند الأبواب، واحتفالات النجاح وأصوات الموسيقى، اختفت الحياة حتى بتنا ننسى شكلها، ومع ذلك، نواصل الصمود وسط هذا الصمت الموحش".
هنا في غزة، الأحلام لا تموت، بل تُجبر على التعايش مع الألم، كزهور تنبت بين الشقوق. أهلها يحملون قلوبًا تتسع للأمل حتى في أحلك الليالي، قد لا تكون الحياة كما كانت، وقد لا تعود إلى سابق عهدها، لكن روحها العنيدة وأهلها الصامدون يكتبون فصولهم الخاصة في ملحمة البقاء، حيث يظل الحلم سلاحًا أخيرًا في وجه المستحيل.