في غزة، تكدست الطوابير حتى أصبحت جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية، كأنها قدر لا مفر منه. لأكثر من عام، لم يظفر الفلسطيني في قطاع غزة بلحظة استراحة أو التقاط أنفاسه، وكأنه عالق في سباق شاق مع الزمن، دقائقه أثقل من الجبال، وساعاته تمتد بلا نهاية، أمام كل احتياج بسيط.
تتعدد الطوابير للحصول على الخبز، والماء، والعلاج، والمساعدات الإغاثية، لكن النتيجة واحدة، انتظار يُنهك الجسد ويستنزف العمر والصحة.
"لم نعرف طوابير الذل هذه قبل الحرب، رغم أن حياتنا كانت بسيطة، لكن لم يخطر ببالنا يوماً أن نصبح أسرى الجوع والانتظار"
يتزاحم الصغار والكبار حول تكية الطعام في حي الشيخ رضوان، يحمل كل منهم إناءه المتواضع، على أمل أن ينال وجبة تقي عائلته شبح الجوع وتدفئ أجسادهم التي أرهقها برد الشتاء القارس.
يتحدث الثلاثيني أمجد ناصر، بصوت يثقله التعب: "كل يوم أقطع مسافة ليست بسيطة، للحصول على وجبة طعام لعائلتي، وأحيانًا أعود خالي اليدين. لم نعرف طوابير الذل هذه قبل الحرب، رغم أن حياتنا كانت بسيطة، لكن لم يخطر ببالنا يومًا أن نصبح أسرى الجوع والانتظار".
ويواصل بنبرة يملؤها الأسى: "في هذه الطوابير أشعر بقمة العجز والقهر، وكل دقيقة أقضيها فيها تُسرق من حياتي ومن وقت أطفالي، أشعر وكأن الحياة ألقت بي في عالم غريب لا يشبهني، يغلب عليه الركض خلف الفتات".
في معظم الشوارع، تمتد طوابير طويلةٌ من الجالونات الفارغة، صامتة كأنها تروي حكاية عطش لا ينتهي، يقف أصحابها بوجوه أرهقها الانتظار أمام شاحنات تعبئة المياه، يتشبثون بأمل الحصول على بضع لترات تروي ظمأهم الشديد.
وسط هذا المشهد، يقف محمد اليازجي متحدثًا بحسرة: "قبل الحرب، كنا نفتح الحنفية ونشرب بسهولة، دون عناء أو تفكير، أما اليوم، فلا خيار لنا سوى الوقوف في هذه الطوابير لساعات طويلة".
يتوقف قليلًا وكأن الألم يثقل كلماته، ثم يضيف: "إن لم نحصل على نصيبنا هنا، نبدأ رحلة البحث عن شاحنة أخرى، لنكرر المشهد ذاته، طابورٌ جديدٌ وانتظارٌ بلا نهاية، وهكذا تمضي أيامنا، وكأن حياتنا قُدّرت أن تضيع بين خطوات الانتظار، بدلًا من أن نقضيها في أعمالنا وأحلامنا التي أفنينا سنوات لتحقيقها".
انتهاك الكرامة
عند بوابة مركز توزيع المساعدات الغذائية في حي النصر، يقف محمد عبد العال، وإلى جانبه طفله الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، يحاول الطفل تغيير وضعيته مرارًا، وكأن جسده الصغير يبحث عبثًا عن لحظة راحة بعد ساعات من الانتظار.
يتحدث عبد العال بصوت خافت يملؤه التعب والانكسار: "حين تصلني رسالة تفيد بوجود طرد إغاثي، أخرج باكرًا وأتجاهل كل المخاطر، على أمل أن أجد طابورًا أقصر، أحيانًا أكون محظوظًا، لكن غالبًا أقف لساعات طويلة بانتظار دوري".
ويضيف محمد عبد العال بأسى: "هذه الطرود هي شريان الحياة الوحيد الذي يبقينا على قيدها وسط انعدام كل سبل العيش والعمل، لكنها لا تأتي إلا بثمن باهظ، تستهلك وقتي، تستنزف طاقتي، وتنتزع شيئًا من كرامتي في كل مرة أقف هنا. أبنائي ينتظرونني بشوق، لكنهم لا يدركون أنني أعود إليهم مثقلًا، ليس فقط بالطرد، بل أيضًا بالذل الذي عايشته هنا".
ويتابع "ابني يسألني دائمًا: لماذا نقف في هذه الطوابير؟ يقول لي إنه متعب، يكره الانتظار الطويل، ويريد العودة إلى الخيمة ليلعب، لكنني مضطر لاصطحابه معي ليعينني على حمل الكوبونات التي أثقلتها المعلبات، وفي كل مرة، أجيبه نفس الجواب: يا ابني، لازم نتحمل هذا العذاب عشان نعيش".
ثمن الانتظار
في غزة، يحمل "الانتظار" ثقلًا أشد قسوة حين يمتد إلى أبواب المستشفيات، هنا، لا يعني الانتظار مجرد تأخير، بل قد يصبح فاصلًا بين الحياة والموت، حيث تمثل كل ثانية أملًا في إنقاذ روح أو انطفائها.
في زاوية ممر ضيق في المستشفى، يتمدد أحمد عابد بجروح وحروق تغطي جسده النحيل، بينما تجلس زوجته بجواره، تراقب الساعات تمر ببطء يشبه الموت.
تقول بصوت يملؤه اليأس: "ثلاث ساعات ونحن ننتظر، زوجي يتألم ولا أحد يستطيع التخفيف عنه، المصابون يملؤون المكان، وكل دقيقة تمر هنا تنتزع جزءًا من أرواحنا".
على بعد خطوات، تحاول ممرضة نقل طفل مصاب إلى غرفة الإسعاف. تقول وهي تلتقط أنفاسها: "نحن نبذل كل ما في وسعنا، لكن ما نقدمه لا يكفي، المعدات مفقودة، الأدوية نادرة، والكهرباء لا تستقر، نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكننا نخسر أرواحًا تنتظر في كل يوم".
في هذا المكان، حيث يُفترض أن يحل الشفاء بديلًا للألم، يبدو الواقع معكوسًا، فطوابير الوجع أطول من الصبر، وأثقل من أن يحتمله أي إنسان.
لا بَدِيلَ آخَرَ
في غزة، تتحمل النساء عبء الاستنزاف الأكبر، حيث تتداخل أدوارهن بين رعاية الأسرة ومواجهة أعباء الحياة اليومية التي أثقلتها الحرب.
تقول إيمان سمور، معلمة فقدت عملها: "أحيانًا أشعر أن حياتي كلها أصبحت على قيد الانتظار، أنتظر الطعام، الماء، الكهرباء، الكوبونات، وأقف في الطوابير لساعات، ولا أدري متى ستنتهي هذه المعاناة".
وتشير إيمان سمور إلى أنها كانت قبل الحرب تمضي وقتها بالتنقل بين الحصص والطلاب، واليوم تقضيها في طوابير أخرى وبلا نهاية، للحصول على أبسط مقومات الحياة.
وتتساءل: "كم من عمري ضاع هنا؟ وكم من لحظات كان يمكن أن أقضيها مع أطفالي أو في تطوير ذاتي، بدلًا من أن أضيعها في هذه الطوابير التي لا تنتهي، نحن لا ننتظر فقط الطعام أو الماء، بل ننتظر حياة أفضل، ننتظر أن ينتهي هذا الكابوس، ولكن لا أحد يعلم كم علينا أن ننتظر بعد".
هنا، في غزة فقد العشرات أرواحهم، ليس لأنهم قرروا المواجهة، بل لأنهم كانوا ببساطة يكافحون لأجل البقاء
لا يتوقف الأمر على كون الطوابير في غزة مجرد انتظار، بل تحولت لصراع يومي مع الموت، فالقصف لا يفرق بين من ينتظر لقمة العيش أو قطرة ماء أو فرصة للعلاج. هنا، في غزة فقد العشرات أرواحهم، ليس لأنهم قرروا المواجهة، بل لأنهم كانوا ببساطة يكافحون لأجل البقاء.
الحياة في غزة باتت سلسلة من اللحظات الضائعة، كل دقيقة تُحسب بثمن، لكن أهلها يواصلون الوقوف في طوابير الحياة؛ لأنهم يعرفون أن البديل الوحيد للانتظار هو الاستسلام، وهو خيار لا مكان له في قاموسهم.