في غَزَّة .. ذاكرةٌ مدفونةٌ تحت الأنقاض
11 فبراير 2025
في مدينة غزة، أصبح الركام شاهدًا على حياة كانت تضجّ في أروقتها، وعنوانًا مؤلمًا لتفاصيل دفنت تحت أنقاضها، حيث يقصدها الغزيون اليوم بحثًا عن بقايا حياة سرقتها الحرب في لحظة واحدة.
ينبش الغزيون الحجارة بأيدٍ متشققة، علّهم يجدون ذكرياتهم المدفونة، أو صورًا حملت وجوه أحبائهم واحتوت أعمارًا كاملة، أو ذاكرة هواتف وثّقت كل اللحظات، حتى تلك التي بدت عابرة
ينبش الغزيون الحجارة بأيدٍ متشققة، علّهم يجدون ذكرياتهم المدفونة، أو صورًا حملت وجوه أحبائهم واحتوت أعمارًا كاملة، أو ذاكرة هواتف وثّقت كل اللحظات، حتى تلك التي بدت عابرة. وينقبون عن أوراقٍ كانت شاهدة على وجودهم، مدسوسة في أدراجٍ احترقت، أو مقتنياتٍ صغيرة تعيدُ إليهم شعور الحياة وسط واقع لم يترك لهم سوى الفقد.
قلة ناجية
وفي غمرة الموت والدمار، تقف جنين الحسنات شاهدةً على جرح الحرب الذي لا يلتئم، بعدما فقدت 24 فردًا من عائلتها دفعة واحدة في قصف دمّر منزلهم. تروي آخر لحظاتها مع عائلتها: "كنا نجلس معًا، أنا وأخواتي، نتهيأ للنوم، لم أعلم أنها ستكون الليلة الأخيرة، فجأة انهار البيت، بقيتُ تحت الركام، بينما أخواتي واصلن نومتهن الأبدية".
فقدت جنين كل شيء، ولم يتبقَّ لها سوى ذكريات تثقل قلبها. تقول: "بعد رحيلهم، لم تعد الحياة كما كانت، ما تبقى لي هو وجوههم في مخيلتي، وأصواتهم في ذاكرتي. أكتب عنهم يوميًا، أكتب خوفًا من أن تخونني الذاكرة، فأفقدهم مرة أخرى".
وفي قلب جنين أمنية تود لو تهبها لكل الغزيين: "انسخوا لحظاتكم السعيدة، احتفظوا بصور أحبائكم وأصواتهم، لا تدعوا شيئًا يضيع، كي لا تبحثوا عنها كما أبحث أنا".
عادت روحي إليّ
آلاء رجب، أمٌ فقدت ابنها في قصف دمّر المنزل الذي نزحت إليه مع عائلتها. تقول: "أكثر ما أفتقده هو لَمّة الجمعة، كان يومًا مقدسًا لعائلتنا؛ نصلي معًا، نحضّر الطعام، ونخرج للاستمتاع بأي مساحة صغيرة من الحياة في غزة. الآن، ابني استشهد، وزوجي أُسر، وكل شيء تبدّد".
بعد استشهاد ابنها، بدأت آلاء رحلة البحث عن هاتفها المفقود تحت الأنقاض، كمن يبحث عن نافذة تطل على الماضي. تضيف: "كنت أبحث عن أي صورة أو فيديو يعيدني إليه، عن ضحكاته وصوته الذي كان يملأ البيت حياة، كنت أتمنى لو أستعيد ولو لحظة واحدة منه".
بعد عام كامل، عثرت آلاء على هاتفها، مدفونًا لكنه ما زال يعمل. تصف تلك اللحظة وكأنها معجزة صغيرة: "عندما أمسكته بيدي، شعرت وكأنني أعانق روحه التي غابت. بكيت كما لم أبكِ من قبل، أمضيت أيامًا أقلب الصور وأستمع إلى صوته، وكأنني أروي عطش روحي التي أنهكها الفقد".
توضح آلاء رجب أنها تفعل المستحيل لحماية ما تبقى من تلك الذكريات. تنسخ الصور والفيديوهات في كل مكان، كي لا تسرق الحرب ما وجدته لابنها مرة أخرى.
محو الماضي
محمد أبو كميل، مهندس شاب، كان يومًا رمزًا للنجاح في غزة. يقول بصوت مُثقل بالوجع: "كنت رجلًا ناجحًا، أعمل استشاريًا مع مؤسسات محلية ودولية. صممت بيتي بنفسي، وكان من أوائل البيوت الذكية في غزة. أنفقت عليه كل ما جمعته من عمل شاق استمر لسنوات طويلة بثلاث ورديات يوميًا. اليوم، كل شيء دُفن تحت الركام".
لم تكن خسائر محمد مادية فقط، فالحرب دمرت حياته المهنية بأكملها. يقول: "توقف الانترنت في غزة لمدة تسعة أشهر كان كافيًا لإنهاء مسيرتي. فسخت 11 شركة عقودها معي. معدات عملي التي جمعتها عبر سنوات من الجهد، ثلاثة أجهزة لابتوب، كاميرا احترافية، ومعدات تقنية، شهادات التقدير، كلها انتهت في لحظة واحدة. شعرت حينها وكأن عالمي كله تبخر".
لكن ما يوجعه أكثر كان فقدان الذكريات. يقول: "اختفت الصور الشخصية التي كانت تحفظ لي وجوه أحبائي وإنجازاتي، تلك الصور التي كنت أراها مرآة لحياتي. اليوم، أشعر وكأن الحرب لم تدمر فقط حاضري، بل سرقت ماضيّ أيضًا، وكأنهم يريدون محو كل ما يثبت أنني كنت هنا".
ليست كومة حجارة
أما الشابة آية صبري، ففقدت منزلها في الأيام الأولى للحرب. تقول: "كان البيت ملاذنا الآمن وحصننا الأخير بعد استشهاد زوجي. لم يكن مجرد كومة حجارة، بل كل تفصيل فيه كان يحمل جزءًا من حياتنا. ألوانه كانت تبهجنا، وجدرانه كانت شاهدة على ضحكاتنا ودموعنا، تعبنا وراحتنا. كل زاوية فيه لها رائحة وروح في ذاكرتي، وكأن البيت جزء من نفسي".
تتابع آية: "عندما قُصف المنزل، خرجنا منه بحقيبة واحدة فيها بعض الأوراق، تاركين خلفنا كل شيء. لم أكن أفقد أشياء مادية فحسب، بل ذكرياتي التي جمعتها عبر سنوات؛ الكتب التي أهدتني إياها صديقاتي، أكوابي المفضلة، والهدايا التي تحمل الكثير من الحب، كلها دفنت تحت الأنقاض".
وتضيف بحزن عميق: "كان المنزل يحمل أثرًا حيًا لرفيق عمري الذي استشهد قبل ثلاث سنوات. كل زاوية كانت تذكرني به، بضحكته، بأغراضه، وحتى بعطره الذي ما زلت أشعر به. مفجع أن تفقد بيتًا يضم ذكريات من تحب بعد أن تفقدهم هم".
وتختم آية حديثها: "ما خسرناه لا يمكن تعويضه بأموال الدنيا. هذا البيت كان لوحة متكاملة من ذكرياتنا، وأي محاولة لاستبداله تشوه الصورة التي نحملها في قلوبنا. لكننا نحاول أن ننسخ ذاكرتنا في أماكن أخرى، لنصنع حياة جديدة رغم كل الألم".
من سيعيد بناءنا
وعن تجربة فقدٍ أخرى، يقول الشاب يوسف أبو زور: "كانت فكرة مغادرة البيت مستحيلة، لكن بعد اشتداد القصف العنيف وانقطاع الماء والكهرباء والاتصالات، أصبحت الحياة داخله مستحيلة، قررنا الخروج ليوم أو يومين فقط، متأكدين أننا سنعود".
يضيف بحزنٍ: "أخذت معي غيارًا واحدًا فقط وهارد ديسك يحتوي على ذكرياتي، وتركنا الباقي لأننا ظننا أننا سنعود قريبًا. لكن في اليوم التالي، قُصف البيت بالكامل، وخسرنا كل شيء".
في تلك اللحظة، شعر وكأن حياته القديمة قد مُحيت. يقول: "اختفت كل إثباتات أنني (يوسف) الذي كان؛ شهاداتي المدرسية والجامعية، وشهادة ميلادي، وحقيبتي التي جمعت فيها ذكرياتي على مدار سبع سنوات. لكنني لم أستطع حملها فتركتها على أمل العودة لأخذها".
اليوم، لم تعد حياتنا حياتنا، ولا أماكننا أماكننا. أمي تقول إننا سنبني البيت من جديد. لكن السؤال الحقيقي: من سيعيد بناءنا؟
يتابع: "خسرنا أكثر من بيت، خسرنا ذكرياتنا وحيواتنا. كل قطعة صغيرة كانت تحمل جزءًا منا، كل كتاب وصورة وأوراق صغيرة كانت مرتبطة بلحظات لا تُنسى. اليوم، لم تعد حياتنا حياتنا، ولا أماكننا أماكننا. كل شيء غريب، وكأننا لم نعد نحن. أمي تقول إننا سنبني البيت من جديد. لكن السؤال الحقيقي: من سيعيد بناءنا؟".
في غزة، لن تنتهي الحرب بانتهاء القصف. ستبقى ندوبها محفورة في القلب. لقد سرقت ملامح الحياة، وبقي الناجون يقتفون أثر ماضٍ مدفون تحت الأنقاض، ويهمسون: "كنا هنا.. وما زلنا نحاول أن نعيش".
الكلمات المفتاحية

الفلسطيني مصعب أبو توهة يحصد بوليتزر 2025: صوت غزة يصل إلى العالم
جائزة بوليتزر تكرّم الشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة عن مقالاته في "نيويوركر"، والتي وثّق فيها معاناة الفلسطينيين في غزة خلال الحرب

سيارة البابا فرنسيس تتحول إلى عيادة صحية للأطفال في غزّة
تم تجهيز السيارة التي استخدمها البابا الراحل خلال زيارته إلى فلسطين عام 2014 بمعدات تشخيصية ومعدات طبية طارئة لمساعدة المرضى الأطفال في قطاع غزة

دعوات إسبانيّة لنقاش أوروبي حول مشاركة "إسرائيل" في "يوروفيجن" بسبب حرب غزة
مخاوف إنسانية تدفع إسبانيا إلى تحدي مشاركة إسرائيل في "يوروفيجن"

مقتل الشاب رامي الزهران برصاص الأمن الفلسطيني في مخيم الفارعة
قتل عناصر الأمن الفلسطيني الشاب رامي الزهران، صباح اليوم الثلاثاء، بعد إطلاق النار على مركبته في مخيم الفارعة

الاحتلال يلاحق الصحفي حسن اصليح ويقتله على سرير العلاج في مستشفىً بخانيونس
استُشهد الصحفي حسن اصليح فجر الثلاثاء داخل مستشفى ناصر الطبي بخان يونس، بعد أن استهدفته طائرة مسيّرة إسرائيلية أثناء تلقيه العلاج من إصابة سابقة

تقارير: خيبة أمل إسرائيلية بشأن خطة ترامب للتهجير وغضب تجاه نتنياهو بعد الإفراج عن ألكسندر
قالت القناة 12 الإسرائيلية إن "هناك حالة من خيبة الأمل في إسرائيل بشأن التقدم المحرز في تنفيذ خطة ترامب للتهجير في قطاع غزة".

خطة تسوية الأراضي بالضفة الغربية: شرعنة للضمّ وتجريد للفلسطينيين من أراضيهم
قالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لـ"الترا فلسطين" إن قرار "الكابينيت" بشأن تسوية الأراضي في الضفة الغربية يستهدف "ما تفعله السلطة الفلسطينية من تنظيم وتسوية وتسجيل للأراضي بالضفة".