31-يناير-2016

سوق في رام الله (لوسيا أحمد)

في الطريق إلى رام الله، ستنصت إلى أكثر من إذاعة في راديو التاكسي، مذيعون ومذيعات مشغولون بأخبار الوزراء وأخطائهم، وركاب همهم الأول الوصول إلى المدينة دون أية حواجز أو معوقات. مذيعون لا تعرف من أين جاؤوا بالضبط، يتحدثون بلهجة بدوية لم أسمعها في فلسطين، أو على الأقل، لم تكن هذه اللهجة هي السائدة في مدن فلسطين التاريخية، أو في مدن الضفة الغربية لا في رام الله ولا في نابلس، لا في الجليل ولا في إصبعه، ولا حتى في المثلث، ولا حتى في الريف الفلسطيني. 

ماذا يعني أن تقوم السلطة باستدعاء فتى في الصف العاشر وحجزه لعشر ساعات لأنه خرج في مظاهرة تشييع لشهيد؟

كنت سأتفهم أن لهجة المذيع جاءت بحكم الجغرافيا وبحكم فقد المدينة الفلسطينية بعد النكبة، لو لم يفصل كلام المذيع وبرنامجه، أغنيات تحيي نشامى الوطن من جنود وشرطة، أغنيات في أصلها ولهجتها كانت للملك وجنوده ولم تكن لفلسطين يومًا. 

ليست هذه الأغنيات التي عرفناها في الانتفاضة الأولى، لا تشبه نشيد موطني، لا تشبه كلمات علي فودة في نشيده "إني اخترتك يا وطني"، أو تلك التي تغنيها "فرقة الفنون الشعبية" في رام الله، وأبعد من ذلك، هي لا تشبه غناء الفلسطينيين قبل ثمانين سنة لمحمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، كما لا تشبه بالتأكيد أغاني ريم البنا أو ريم تلحمي، وكل من اجتهدوا وتعبوا لخلق أغنية فلسطينية خاصة في خريطة الغناء العربي.

أتذكر أن عمتي شقيقة أبي، كانت تخفي كاسيتات هذه الأغاني، برفقة الكتب والمنشورات الحزبية لفصائل منظمة التحرير، تخفيها وتغير مكانها أكثر من مرة، وفي أكثر من بيت خوفًا من الملاحقة أو خوفًا من دوريات الاحتلال الليلية وقت الانتفاضة الأولى. كان الغناء برسالته وضروريته، يحمل رسالة المكان، وأن اللهجة بصوتها وبساطتها تحمل تلك الخفة التي في المدينة الفلسطينية.

والحديث على الراديو أيضًا، حديث الضيوف والمذيع على سواء، عن التوقعات حول التغيير الوزاري، أو فساد الوزير الفلاني، أو السيارات التي يمتلكها المدراء في الوزارات، واستخدام المذيع لمصطلحات التفخيم المكررة، مثل عطوفة الوزير، معاليك، سيادتك.. وغيرها من المصطلحات، لا يشبه بالتأكيد حديثنا العادي في البيوت أو في المقاهي، لا يشبه همومنا الصغيرة في تعليم الأولاد والرجوع إلى البيت، أو الكبيرة في التحرر والاستقلال. ولهجة المذيع لا تشبه لهجة نابلس، أو لهجة صديقي القادم من جنين. والحديث كله أبعد ما يكون عن شكل وطبيعة أحاديث الفلسطينيين غير المعنيين بالوزراء ولا مشاكلهم ولا فسادهم.

ما جرى في العشر سنوات الأخيرة في فلسطين هو استنساخ أسوأ ما في تجارب دول الجوار

ما يثير عندي هذه الهواجس وغيرها، هو ما ألحظه من ممارسات تتعدّى الحقل الإعلامي، إلى حقول العمل المختلفة في الوزارات أو بقطاع الأمن أو حتى القطاع الثقافي، فماذا يعني أن تقوم السلطة باستدعاء فتى في الصف العاشر وحجزه لعشر ساعات لأنه خرج في مظاهرة تشييع لشهيد؟ وماذا يعني أن يقوم القضاء بمحاكمة أحد الأصدقاء على الفيسبوك لأنه اعترض على الرئيس أو مؤسسة الرئاسة؟ كنا نشتم ياسر عرفات من قبل، ولم يكن أحد يحاسبنا، كنا نشتمه في الحصار، وعندما كنا نشاهده يتحدث كنا ننصت له لأننا نحب الاستماع إلى غضبه، ولما كنا نرى الجرافات الإسرائيلية تقترب من غرفته في المقاطعة كنا نخرج إلى الشوارع والطرقات نهتف باسمه ونحلف بحياته لأننا أحببناه، ثم نعود لشتمه مرة أخرى.

ما جرى في العشر سنوات الأخيرة في فلسطين هو استنساخ أسوأ ما في تجارب دول الجوار، استنساخ لبروقراطية الجهاز الإداري، واستنساخ لجهود إدارات التعبئة والتنظيم، واستستاخ لشكل مؤسسات الأمن وأدوارها وقمعيتها، واستنساخ لأدوار الدكتاتور أيضًا. ولن تحتاج إلى جهد لاكتشاف ذلك، أنصت لحديث ضابط الأمن وتعامله معك، ثم قم بزيارة وزارة الثقافة أو مبنى الأمن، حدق جيدًا في الصورة التي خلف مكتب صديقك المدير أو المسؤول، ثم أنصت للراديو في طريق العودة، أنصت لتصريحات المسؤولين على الهواء، ثم تذكر، قبل وجود الفضائيات والأقمار اللاقطة، ماذا كنت تكره في التلفزيون الأردني بالضبط!!

اقرأ/ي أيضًا:

السيرة القسرية للمدينة الفلسطينية

نابلس وأشياؤها