24-مايو-2017

التطريز إحدى مهن ذوات الإعاقة في غزة – تصوير محمد عابد (Getty)

تجثو الشابة الصماء كفاح أبوصيام (27 عامًا) على ركبتيها وهي تحيك زخرفة فنية على قطعة بيضاء من القماش تزيد مساحتها عن أربعة أمتار، والأرق بادٍ على وجهها. تمسك بتلابيب القماشة وهي تقطب الغرزة بإبرة مدببة وخيط حريري، تضعها أرضًا من حين لآخر لتفرك عينيها الذابلتين، ذلك لقاء 150 شيكل ثمنًا لهذه المهمة الشاقة التي تستغرق أسبوعين على الأقل من العمل المتواصل.

تُعبّر كفاح، معتمدة على لغة الإشارة، عن استيائها من تدني الأجر الذي تتقاضاه مقابل تعاونها مع إحدى المدارس الخاصة بذوي الإعاقة القائمة في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، لإنتاج القطع المطرزة بمختلف أشكالها.

44% نسبة الإناث من العدد الإجمالي لذوي الإعاقة في قطاع غزة، و85% منهن يتعرضن للعنف الاقتصادي

وتواجه ذوات الإعاقة الخاصة ونسبتهن 44% من إجمالي عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة، تحديات مضاعفة تتعلق بحصولهن على أقل من الحدى الأدنى للأجور، وفي بعض الأحيان لا يحصلن على أجر بالأساس، فضلاً عن وجود صعوبة بالغة في الحصول على فرصة عمل، على الرغم من أن قانون "حقوق المعوقين" رقم 4 لسنة 1999، وقانون العمل الفلسطيني رقم (4) لسنة 2000، كفلا الحق في العمل لذوي الاحتياجات الخاصة بصفة عامة.

اقرأ/ي أيضًا: أعشاب سامة في "دكاكين الطب البديل" بغزة

ويظل صوت هذه الفئة خافتًا، مقارنة بالفئات المجتمعية الأخرى، بذريعة ضعف الثقة بالمؤسسات الداعمة، الأمر الذي كان محركًا وراء طرح هذا الملف على طاولة البحث، وقوفًا على حجم الدور الحكومي في إنصاف ذوات الإعاقة، بصفتها الجهة المخولة قانونًا بحفظ حقوقهم.

ما لا يقل عن 20 أنثى يعانين إعاقات مختلفة، استمعنا إلى شكواهن المرتبطة باستغلالهن في سوق العمل. آلاء سامي (30 عامًا) تعاني إعاقة حركية، قررت أن تتحدث بصوت عالٍ، منتقدة حجم التمييز من قبل أرباب الحِرف والشركات بين ذوات الإعاقة والأصحاء.

تعيش آلاء منذ ستة أشهر، ظرفًا نفسيًا واقتصاديًا سيئًا بسبب إقصائها من إحدى الشركات التي كانت تعمل بها كمحاسبة مالية، إذ تم استبدالها بمحاسبة أخرى "سليمة جسديًا"، رغم أن آلاء عملت لمدة عامين مقابل 600 شيكل شهري، مقابل وردية عمل 8 ساعات يوميًا.

ووفقًا لدراسة محلية حول العنف ضد النساء ذوات الإعاقة، أعدها المركز الوطني للتأهيل المجتمعي، فإن 85.3% من ذوات الإعاقة يتعرضن للعنف الاقتصادي.

ما أوردته الدراسة يتقاطع مع ما وثقناه من استغلال لذوات الاحتياجات الخاصة في المجال الوظيفي وكذلك المهني. 50 شابة انخرطن في مشروعٍ لدعم وتشغيل ذوي الاحتياجات الخاصة في غزة، ممول من قبل جهات دولية، يتقاضين 100$ شهريًا تحت بند التدريب، علمًا أنهن تلقين وعودًا بالحصول على ضِعف الأجر "إذا تطورت إمكانياتهن لتوائم ظروف العمل بعد انتهاء مدة التدريب التي تستمر لسبعة أشهر".

أمل (اسم مستعار) تعاني إعاقة حركية، وتعمل ضمن مشروع تدريبي لذوات الإعاقة، قالت إنها من المقرر أن تتقاضى راتب 100$ شهريًا، مقابل وردية عمل في اليوم الواحد تستمر لست ساعات متواصلة. لكن لا تعلم أمل إن كانت قيمة ما تتقاضاه قانوني أم لا.

طبيعة عمل أمل هو تصميم الزخارف الإلكترونية وطباعتها على الأكواب الزجاجية و"الفنيلات"، على أن عرض هذه المنتجات في متجر عام يعود دخله للجهة المشغلة. لكن أمل تعول على أن تستفيد من هذه المهنة بعد انقضاء مدة التدريب، وتفتتح متجرًا خاصًا ليشكل مصدرًا للدخل.

قانونيًا، تتنافى قيمة الأجر، مع ما نص عليه قرار مجلس الوزراء رقم (11) لسنة 2012، باعتماد الحد الأدنى للأجور في جميع مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، وإلزامه في بنده الأول، أن يكون الحد الأدنى للأجر الشهري في جميع القطاعات (1450 شيقل)، بينما الحد الأدنى لأجور عمال المياومة وخاصة العاملين بشكل يومي غير منتظم، إضافة إلى العمال الموسميين (65 شيقل).

قانون الحد الأدنى للأجور لم يدخل حيز التنفيذ في غزة، وعندما يدخل فإنه لن يشمل العاملات على برامج تدريبية

يبرر أيمن أبو كريم مدير دائرة تنمية التشغيل في وزارة العمل، عدم حصول المنخرطات في برامج التدريب على قيمة الحد الأدنى للأجور، بأن الجهد الذي يبذلنه يأتي في سياق تدريبي بحت.

اقرأ/ي أيضًا: العريس "سليم" والعروس "ذات إعاقة".. معقول؟

ويوضح أبو كريم، أن قيمة ما يحصلن عليه ذوات الإعاقة الخاصة، بمثابة مكافأة ماليّة بموجب عقد تدريب، وليس عملًا بالمفهوم الصحيح. المفارقة أن ما تنتجه أمل وغيرها من المستفيدات من برامج التدريب الخاصة بذوات الإعاقة، يدر دخلًا كبيرًا على الجهة المشغلة، غير أن أبو كريم أوضح أن الغاية من بيع المنتجات اللواتي يصنعنها المتدربات، يأتي في سياق استثمارها لصالح تشغيل أفراد آخرين من ذوي الإعاقة، بعد انتهاء المدة التدريبية المقررة.

ورغم الشكاوى اللامتناهية لذوات الإعاقة من تردي قيمة العائد المادي الذي يتقاضينه، إلا أنه تبين عدم تسجيل أي منهن شكوى رسمية بحق الجهات المشغلة، وهذا ما أكدته وزارة العمل بغزة.

وأصدر وزير العمل الفلسطيني مأمون أبو شهلا، قرارًا في شهر آذار/مارس الماضي، يقضي بإلزام أصحاب العمل ببدء تطبيق الحد الأدنى للأجور في كافة المحافظات، لكن القرار لم يدخل حيز التنفيذ حتى الآن في سوق العمل، وفقًا لرواية عشرات العاملات من ذوات الإعاقة.

وعلى الرغم من إقرار فادي المسارعي مدير دائرة شروط العمل بوزارة العمل بحجم الاستغلال الممارس بحق هذه الفئة، لكنه ينفى وجود أي شكوى بحق أي من المؤسسات المشغلة لهن، قائلًا: "ندعو ذوي الاحتياجات الخاصة بالتوجه إلى مكاتب العمل من أجل تقديم شكاوى، بحق أرباب العمل المقصرين في صرف أجور تتطابق مع الحد الأدنى، حتى نتمكن من التعامل معها رسميًا".

وشدد على على أن وزارته استطاعت إلزام بعض المؤسسات التي تقوم على تطبيق مشاريع تشغيلية ممولة، بتطبيق الحد الأدنى للأجور، بيد أنها لم تستطع تطبيق ذلك الأمر على المؤسسات الأخرى نظرًا للواقع الاقتصادي المتردي الذي يعانيه القطاع.

أقوال المسارعي تتعارض مع ما قالته بيسان (اسم مستعار)، التي تعاني إعاقة مزدوجة (سمعية وبصرية)، واضطرت إلى ترك عملها تحت وطأة الضغط الممارس عليها داخل مؤسسة رفضت الكشف عن اسمها، نظرًا لتدني قيمة الراتب الذي كانت تتقاضاه.

وقالت بيسان (32 عامًا)، الحاصلة على دبلوم في التسويق الإلكتروني، وعملت كسكرتيرة، "قضيت وقتًا طويلًا أعمل دون عائد مادي، وبعد أشهر تقاضيت 400 شيكل كراتب مبدئي، ثم تدرج الأمر وصولًا إلى 600 شيكل، وعندما طالبت بحقي في الامتياز المادي رفضت الإدارة طلبي وساومتني على ترك العمل، فغادرت المؤسسة من الفور".

لم تسجل وزارة العمل أي شكوى من ذوات إعاقة بسبب استغلالهن، فمخاوفهن من أرباب العمل وضعف القانون تمنعهن من الشكوى

وتمكنت بيسان بموجب حملها أكثر من شهادة جامعية، من العمل في مؤسسات مختلفة (تعنى بذوات الإعاقة وغيرها)، لكنها جميعًا لم تحقق طموحها بصرف راتب كامل يتساوى مع الموظفين الأصحاء. ولذا فإن بيسان تنتقد بشدة الجهات القائمة على رعاية ذوات الإعاقة الخاصة، وتقول إن هذه الجهات تتجاهل حقوق هذه الفئة وتسعى لتحقيق مصالحها فقط.

وبموجب عملية بحث عميقة، تبين أن الإحساس العميق للنشطاء في مجال الإعاقة بحجم استغلال هذه الفئة، لم يتجاوز حدود المطالبة بضرورة إقرار الجهات المشغلة بحقوقهن، بينما يظل التمييز واضحًا في جوانب أخرى في سوق العمل، دون قدرة أحد على تغيير هذا الواقع.

"ألترا فلسطين" التقى في سياق البحث عددًا من المدافعين عن قضايا ذوي الإعاقة، جميعهم أكدوا على ضرورة اتخاذ خطوات أكثر جديّة من وزارة العمل لإنصاف هذه الفئة، دون وضع خطة أو تشكيل هيئة لإنهاء حالة الاستغلال القائمة بحق تلك الفئة من الإناث.

ويتجلى التمييز بصورته الكبرى، عندما يعلن عن وظائف في المؤسسات المختلفة، إذ تجد ذوات الاحتياجات الخاصة أنفسهن مهمشات، عندما يفضل أرباب العمل احتواء موظفين أصحاء، مع العلم أن قانون "حقوق المعوقين" رقم 4 لسنة 1999 نصّ على ضرورة احتواء كل مؤسسة حكومية وغير حكومية على 5% من ذوي الاحتياجات، بما يتناسب مع طبيعة العمل داخلها.

ولا يمكن حصر عدد المؤسسات والشركات والدوائر الحكومية التي تتيح الفرصة لتشغيل ذوات الاحتياجات الخاصة ضمن كوادرها، غير أن الاحصاءات التي حصلنا عليها أفادت بوجود ما لا يقل عن (101) شخص من ذوي الإعاقة في قطاع غزة يعملون ضمن برنامج التمكين التابع لوزارة العمل، معظمهم يعانون ظروفًا اقتصادية صعبة.

ووفقا لإحصائية للبرنامج المحوسب التابع للشؤون الاجتماعية ومؤسسات التأهيل، فإن عدد الإناث ذوات الاعاقة بلغت 19514 أنثى.

ولا يستثنى من النقد، ذوات الإعاقة أنفسهن اللواتي فضلت كثيرٌ منهن عدم ذكر أسمائهن خوفًا من التعرض لضغوط من الجهات القائمة على تشغيلهن، وتراجعن عن تقديم أي شكاوى بحق الجهات التي تقوم باستغلالهن.

وبررت هؤلاء ترددهن بافتقادهن للجهات الداعمة، وعجزهن عن تشكيل جماعة ضغط بالتعاون مع الجهات القانونية لإيصال أصواتهن. غير أن إحداهن خرجت عن صمتها قائلةً: "إذا كان حقنا في المواءمة أو التعليم غير متوفر، فكيف سنطالب بحقنا في الحصول على أجر؟".

ووجهت أصبع الاتهام إلى وزارة العمل التي وصفتها بـ"المقصرة" في تنفيذ قرار الحد الأدنى للأجور، "مقابل خلق هالة حول فرص التشغيل المؤقت التي تنفذها مع المؤسسات الشريكة، والتي لم تعد بالجدوى الحقيقية عليهن" حسب قولها.


اقرأ/ي أيضًا:  

في غزة.. محامون يزوجون قاصرات بعيدًا عن المحاكم

معلمات "رياض الأطفال".. دوام طول العام والراتب فتات

مليونيرية يقودون عصابات الشيكات البنكية