11-فبراير-2021

راما، امرأةٌ شابّةٌ تعيش في بلدة عربيّة، تروي لنا عن "نقطة سوداء" كَوَتها في روحها الأيّامُ الصعبةُ التي خاضتها عبر تجربة زواجها من رجل مطلّق له أولاد أربعة، للتخلّص من سطوة والدها ومعاملته السيّئة لها مع تأخّرها في الزواج، وكأنّها كانت مذنبةً في هذا الأمر، إضافةً إلى قلّة حيلة والدتها ولا مبالاتها تجاه معاملة زوجها لابنتها. رضخت راما وأقنعت نفسها بأنّها ترغب بهذا الزواج متأمّلةً أن تبدأ من خلاله حياة جديدة، وأن تسدّ الباب على أيّام العنوسة التي حنّطتها بها العائلة والمجتمع.

تصوّر الكاتبة أسماء بركات عبر صفحات رواية "نقطة سوداء"، قصّة راما وهي تحاول السير على الصراط المرسوم لها في البيت والمجتمع ويُرضيهم أكثر مما يُقنعها

هي صاحبة مهنة، تحبّها وتتعامل معها بجدّيّة وأمانة. وعلى الرغم من الثقة التي قد تُكسبها المهنة والاستقلاليّة المادّيّة التي ترافقها، إلّا أنّها لم تُجنّبها من الوقوع في فخّ لا يزال منصوبًا في بيئات من مجتمعاتنا في أقطار عربيّة عديدة وكأنّه الحل. فخرجت من بيت والديها كما نقول في العامّيّة "من تحت الدلف إلى تحت المزراب"، لتعيش في كنف المطلَّق أبي الأولاد، ونقول في كنف وليس كزوجة متساوية مع زوجها لأنّ هذا ما حصل معها.

اقرأ/ي أيضًا: "ليتني كنت أعمى".. كي أرى!

عملت راما وضحّت كثيرًا من أجل إنجاح علاقتها بهذا الرجل الغريب، لكنّ الحظّ لم يحالفها، أو بكلماتها: "ما بُني على خطأ ستكون نهايته خاطئة مع الأسف!" (ص 36). اعتنت به وبأولاده أفضل عناية، بكلّ صدق وإخلاص وحبّ. حسّنت علاقته بأولاده؛ أدخلت الابتسام والفرح إلى قلوبهم؛ ساعدتهم في دراستهم؛ حاولت تعويضهم بالحبّ في غياب والدتهم؛ احتوت غضبه ومزاجيّته وإقصاءه لها، مُصبِّرةً نفسها علّه يفهم كرمها ويقدّر جهودها، إلّا أنّه لم يكن يستأهل كلّ تضحياتها ومحبّتها: استغلّها، وقرّر بعد فترة أنّه ملّ منها.

تعود راما إلى بيت والديها لتعيش في مساحة ضيّقة جدًا، محصورة عواطفها وأفكارها في قلب نقطة سوداء تهيج منها عواصف الحزن والخيبة والوحدة. لكنّ راما المتفائلة لا تسمح للقنوط والإحباط أن ينهشا بروحها طويلًا، بل تقاوم التقوقع والغرق في ذاكرة التجربة المريرة، وتبحث وتجهد إلى أن تجد ثغرة في الجدار الذي عاد وانبنى بعودتها لبيت العائلة، فتخرج عبرها لتشقّ لنفسها طريق أمل وتطوّر وارتقاء تناسبها في الحياة.

تصوّر الكاتبة أسماء بركات عبر صفحات روايتها "نقطة سوداء"، عملها الطويل الأوّل، قصّة راما وهي تحاول السير على الصراط المرسوم لها في البيت والمجتمع ويُرضيهم أكثر مما يُقنعها، الصراط الذي من المفروض أن يؤمّن لها الحياة الكريمة كامرأة متزوّجة، لكنّها تنال الغدر والاستغلال والمهانة لقاء الحبّ والتضحية والإخلاص الذين تقدّمهم.

تجيد الكاتبة أسماء بركات في سرد وتحليل الأحداث والمشاعر بلغة سلسة وتعابير جميلة على لسان راما

وتجيد الكاتبة أسماء بركات في سرد وتحليل الأحداث والمشاعر بلغة سلسة وتعابير جميلة على لسان راما، وتدخلنا في الزوايا المعتمة من حياتها الصعبة وأيضَا المضيئة فيها؛ فنعيش أزماتها وغلبتها، وأيضًا تفاؤلها ورفعها لنفسها بنفسها للتغلّب على الصعوبات. تكاد تكون الحوارات والأحداث المباشرة معدومة في الرواية، إلّا أنّ أسلوب الكتابة ينجح في عمليّة التشويق ويدفعنا للاستمرار في القراءة حتّى نصل ضفّة الكتاب الأخرى.

اقرأ/ي أيضًا: في ليل الثورة لا مكان للرّايات السود

وفي هذه الباكورة الروائيّة، اختارت لنا الكاتبة أن تصوّر حياة راما من منظور الأخيرة ذاتها وبلغتها الخاصّة، والتي تعرّف نفسها كإنسانة متديّنة ومحافظة جدًّا، لا تؤذي أحدًا، وتتكلّم (تكتب) بلغة من الحياء والاحترام الذاتيّ الشديدين. وهذا الحياء نجده واضحًا في عدم تصوير راما للعلاقة الجسديّة بينها وبين زوجها. يمكننا كقرّاء أن نستدلّ من بين السطور أنّه كانت بعض الأيّام التي دخل بينهما العسل، مثلًا بمعرفتنا أنّهما يعيشان في منزل منفصل عن منزل أولاده من زوجته الأولى. ولاحقًا تخبرنا راما أنّها تستشعر التطوّر العكسيّ للعلاقة بينهما عندما صار يبتعد عنها ويفتر تجاهها، دون القول مباشرة ما يحدث أو ما لا يحدث عندما يكونان وحدهما.

من الواضح أنّ تناول موضوع اضطهاد المرأة لا يشكّل أمرًا جديدًا في الأدب العربيّ (وغير العربيّ). وكذلك، لعار المجتمعات الإنسانيّة، من الواضح إنّه لن يغيب هذا الاضطهاد ولا الكتابة الأدبيّة عنه بعد أمد قريب. وفي حين أنّنا كقرّاء غير مختصّين/ات، وفي سبيل فهم أصول الاضطهاد ومحرّكاته والمؤسسات التي تحميه، قد نكتفي بقراءة بعض الكتابات ذات الطابع التحليليّ العلميّ كالسيكولوجيّ، الاقتصادي-اجتماعيّ، السياسيّ، والتاريخيّ عن هذا الاضطهاد، إلّا أنّنا لا نستطيع أن نكتفي من قراءة الكتابات الأدبيّة عنه، هذا إن كنّا نرغب في التفاعل وتغيير الواقع الراهن، لا أن نتهرّب منه أو نتعمّد الإبقاء عليه.

الأدب الحقيقيّ هو الأدب الذي يصوّر، من جهةٍ، حيواتنا ويعالجها من زوايا جديدة، ومن جهة أخرى، يحرّضنا ويحفّزنا على التغيّر نحو الأفضل

كما أنّنا لا نستطيع أن نطالب بـ "تبديل الأسطوانة" والكتابة عن مواضيع أخرى لأنّنا قرأنا و"سمعنا القصّة" مليون مرّة؛ فالأدب الحقيقيّ كما نعرفه هو الأدب الذي يصوّر، من جهةٍ، حيواتنا ويعالجها من زوايا جديدة ومتجدّدة ليلقي بالضوء على الزوايا المعتمة والخفيّة فيها. ومن جهة أخرى، يحرّضنا ويحفّزنا على التغيّر نحو الأفضل أو الأقوى أو الأكثر فعاليّة وحساسيّة في الحياة.

والحديث المعهود عن قضيّة اضطهاد المرأة بشكل عامّ لا يمكنه أن يختزل قصّة حياة كل امرأة أو أيّ امرأة وما تعيشه من تجارب خاصّة.

نهنّئ الكاتبة الشابّة أسماء بركات على هذه الرواية، على هذه الصرخة الصادقة والحسّاسة التي وضعتها بين أيادينا وأمام أعيننا، ونتمنّى لها أن تستمرّ على درب الإبداع والفكر بنجاح، وأن تكتب بجرأة دائمة ومتنامية في تحدّي الحدود وخلخلتها.

* صدر الكتاب عن دار طِباق للنشر والتوزيع – رام الله (2021)، ويقع في 142 صفحة من القطع الصغير. لوحة الغلاف: سلام حماد؛ تصميم الكتاب: أيمن حرب


اقرأ/ي أيضًا: 

القطان تفتتح معرض "50 قرية: 20 فنان"

8 كتب أصدرتها "الدراسات الفلسطينية" في 2020

دلالات: