"قرية الوفاء".. 200 طفل من أيتام الحرب يتلقون رعاية وتأهيل وخدمات مجانية

يكتنز الطفلان أحمد وعدي الكثير من الحزن والألم في قلبيهما الصغيرين، وقد باتا يتيمين، كما الآلاف من أقرانهم في قطاع غزة، الذين خطفت المحرقة الإسرائيلية والديهم أو أحدهما، وسيكون عليهم مواجهة تحديات الحياة بمفردهم مبكرًا.

تقدم قرية الوفاء حاليًا خدماتها لزهاء 200 طفل يتيم، والهدف الأساسي هو توفير ملاذ آمن للأطفال الأيتام، يعزلهم عن أجواء الرعب ولو لبعض الوقت، ويحررهم من ضغوط الحرب

أحمد وعدي، قريبان من عائلة شعبان، اضطرا مع من بقي من أسرتيهما للنزوح من منطقة "جباليا البلد" في شمال القطاع، وعاشا حياة بائسة في خيام النزوح في جنوب القطاع، ولكل منهما حكاية ألم تدمي القلوب، وستدوم آثارها معهما لسنوات طويلة.

يدرك أحمد (12 عامًا) الحقيقة المؤلمة أنه بات طفلاً يتيمًا، وقد فقد والديه في غارة جوية إسرائيلية استهدفتهما، بعدما خرجا من المنزل ليبحثا له ولإخوته عن طعام يسد رمقهم، وقد نهشت المجاعة آنذاك أجسادهم وفتكت بمن بقي في مدينة غزة ومناطق شمال القطاع.

أيتام حرب

لا يعلم أحمد شيئًا عن مصير والده ووالدته، ولم يحظى بفرصة إلقاء نظرة الوداع عليهما، ويقول: "ما بعرف شو صار معهم، وما بعرف إذا دفنوهم أو لا".

في ذلك الحين، عندما استشهد والدا أحمد مطلع العام 2024، كانت المجازر الإسرائيلية في شمال القطاع على أشدها، وفقدت جثامين آلاف الشهداء وبقيت ملقاة في الشوارع والأزقة، ولم تسمح قوات الاحتلال لفرق الإسعاف والطوارئ بالوصول إليها وانتشالها.

وبحسب أحدث إحصائية للمكتب الإعلامي الحكومي، نُشرت بداية شهر شباط/فبراير 2024، فإن 14 ألفًا و222 شهيدًا مفقودًا ماتزال جثامينهم تحت الركام أو بالطرقات.

بات أحمد واخوته لا يملكون قرارهم، وأجبرتهم الحياة القاسية في شمال القطاع على النزوح جنوبًا برفقة جديهم، ويقول: "نعيش حاليًا في خيمة في مدينة دير البلح" وسط القطاع، ويضيف: "الحياة صعبة كثير، ولا يتوفر لدينا أي شيء، وجدي يجلب لنا الطعام من التكية ولا يكفينا".

"والله حرام الي بيصير فينا" يقول عدي (12 عامًا) وهو يستمع إلى حكاية ابن خالته أحمد، وهذا الطفل نفسه له حكاية مشابهة، حيث فقد والده ولم يحظى أيضًا بفرصة وداعه والمشاركة في دفنه، وبكثير من الحزن يتساءل: "شو ذنبي أعيش بدون أبي؟".

أيتام في خيام النزوح

استشهد والد عدي في جباليا، ويقول إنه وباقي الأسرة لا يعلمون شيئًا عن مصير جثمانه، وهل دفنه الناس هناك أو أن جثمانه لا يزال ملقى في الشارع أو تحت الأنقاض.

وازداد الضغط على أسرة عدي في شمال القطاع، واضطرت الأم المكلومة إلى النزوح بأطفالها الثلاثة إلى جنوب القطاع، وتقيم حاليًا في خيمة بمنطقة المواصي غرب مدينة خان يونس.

فارقت السعادة الطفل عدي، وعانى مع أسرته الأمرين من دون معيل، وعلى صغر عمره، إلا أنه يدرك خسارته الكبيرة بفقده لأبيه، ويقول: "الحياة صعبة بدون أب".

ووجد عدي نفسه مضطرًا لخوض تجربة العمل والنزول لسوق العمل مبكرًا، وبيع حلوى شعبية في الشوارع وبين الخيام وفي مراكز الإيواء، من أجل المساعدة في توفير الاحتياجات الأساسية لأسرته.

وفي حكاية مشابهة لأحمد وعدي، فقد الطفل محمد علي (8 أعوام) والده، جراء غارة جوية إسرائيلية استهدفت سيارة كان يستقلها في مدينة غزة.

وبعد استشهاد أبيه ضاقت الحياة على أسرة محمد، وقررت والدته اصطحابه مع شقيقه وشقيقته، والنزوح بهم إلى جنوب القطاع، ويقول: "كنا نقيم في منزل جميل في حي الصبرة بمدينة غزة، والآن نعيش في خيمة بمواصي خان يونس".

رعاية وتأهيل

هذه الحكايات المؤلمة للأطفال الثلاثة أهلتهم للالتحاق بقرية الوفاء لرعاية الأيتام، وهي قريةٌ حديثةٌ افتتحت قبل بضعة أيام في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، وتركز اهتمامها على حالات مأساوية لأطفال أيتام، بينهم من نجا بمفرده من مجزرة مروعة سحقت أسرته أو بعضها وبات وحيدًا في هذا العالم، ولم يتجاوزا هذه المأساة.

وتقدم قرية الوفاء حاليًا خدماتها لزهاء 200 طفل يتيم، يعيش غالبيتهم حياة بائسة في خيام النزوح ومراكز الإيواء، وتقول صاحبة هذه المبادرة ومديرة القرية، الدكتورة وفاء أبو جلالة لـ الترا فلسطين، إن الهدف الأساسي هو توفير ملاذ آمن للأطفال الأيتام، يعزلهم عن أجواء الرعب ولو لبعض الوقت، ويحررهم من ضغوط الحرب.

ولتحقيق هذا الهدف، فإن قرية الوفاء تقدم خدمات متنوعة، كالتعليم، والتفريغ النفسي والتأهيل، والترفيه، وبحسب وفاء أبو جلالة، وهي أخصائية نطق وتأهيل واضطرابات نفسية، فإن "قرية الوفاء تُعدُّ حياة جديدة بالنسبة للأطفال الأيتام، ونحرص خلال تواجدهم على منحهم كل سبل الأمان والراحة والطمأنينة".

ويعمل في قرية الوفاء مبادرون ومبادرات طوعيًا وبدون مقابل، يجمعهم الإيمان بقيمة العمل مع الأطفال الأيتام، وتقول وفاء أبو جلالة إن كل جهد في جوانب الأنشطة المختلفة، نفسيًا واجتماعيًا وتعليميًا وترفيهيًا، الهدف منه "إعادة بناء الطفل من جديد، وعدم تركه فريسة لليأس والحزن".

تحديات وآثار مرضية

ومن أبرز التحديات التي تواجه طواقم القرية، حجم الصدمات النفسية التي تركت أثرها على شخصية الأطفال، خاصة سلوكياتهم، والبعض منهم كان للصدمة أثرها في قدرته على النطق السليم، "وقد عانى هؤلاء الأطفال تجارب قاسية لا تحتملها الجبال" كما تقول وفاء أبو جلالة.

ولذلك، فإن الأطفال الأيتام في مثل حالة الآلاف من أطفال غزة، الذين يواجهون هذه التجارب الدامية بفعل الحرب غير المسبوقة، يحتاجون إلى رعاية خاصة وتعامل احترافي وفقًا لكل حالة وما مرت به، وفقًا للدكتورة أبو جلالة.

وتضيف: "ما يواجهه أطفال غزة الأيتام خصوصًا لا يستطيع كثير من البالغين تحمله، ففقْدُ الأب أو الأم وقعه شديد على الطفل، وهو ليس مجرد فقد عزيز أو حبيب، بل هو فقد للسند والعاطفة، وبنظر الطفل وكانه فقد العالم بأسره". وتابعت: "لأننا ندرك هذه الحقيقة وكم هي معاناة وأحزان الطفل اليتيم فإننا نقدم لهم الدعم النفسي المتخصص الذي يساعدهم على تخطي الصدمات، ونوفر جلسات إرشاد نفسي ودعم عاطفي، ونوفر مختصين للعمل مع كل طفل على حدة ووفقًا لخصوصية حالته النفسية وحجم الصدمة التي يعاني منها، ويتم العمل على معالجة القلق، والخوف، والتوتر الذي يعيشه الأطفال نتيجة لتجاربهم المروعة".

كما يوجد في قرية الوفاء قسمٌ خاص بالتأهيل اللغوي، وتشير أبو جلالة إلى أهمية هذا القسم الكبيرة في التعامل مع أطفال فقدوا القدرة على التعبير والنطق السليم بسبب هول الصدمات التي تعرضوا إليها خلال هذه الحرب غير المسبوقة في مقدار العنف والخوف.

وفي قسم التأهيل اللغوي، يعمل متخصصون من أجل تمكين الأطفال الأيتام من استعادة توازنهم الداخلي عبر علاج مشكلات النطق، وتشجيعهم كذلك على التعبير التدريجي عن ذواتهم وما يختلج صوردهم من مشاعر وأحاسيس.

تلخص الأخصائية النفسية المتطوعة أسيل أبو سليمان، انعكاسات الحرب على شخصية الأطفال، خاصة الأيتام منهم، في العدوانية والتشتت، وعدم الاتزان النفسي

وتلخص الأخصائية النفسية المتطوعة أسيل أبو سليمان لـ الترا فلسطين، انعكاسات الحرب على شخصية الأطفال، خاصة الأيتام منهم، في العدوانية والتشتت، وعدم الاتزان النفسي، وتؤكد أنهم يعانون من خلل في مختلف السلوكيات الشخصية نتيجة أهوال الحرب، خاصة من تعرض منهم لتجارب شخصية كفقد الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت.

ولاستكمال أهداف قرية الوفاء، كان الاهتمام واضحًا بالشكل الخارجي، الذي أشرفت عليه المهندسة ملاك زعرب، التي قالت لـ الترا فلسطين، إنها استوحت تصميم القرية من سلسلة أفلام الكرتون الشهيرة المعروفة بالسنافر، "التي تتميز بألون زاهية تبعث الفرح في نفوس الأطفال، إضافة إلى إعلاء قيمة التعاون وروح العمل الجماعي، لتشجيع الأطفال على الاندماج معا، وخلق بيئة تساعدهم على تجاوز الصدمة" حسب ملاك زعرب.