25-سبتمبر-2018

جدّتي لأمي وجدّتي لأبي هما بطلتا عالمي، وفيهما ما هو مشترك من الصفات وفيهما ما هو متنافرٌ تمامًا، وعجيبٌ كيف أنني أحب الصفات المتنافرة هذه رغم تنافرها الشديد! فبين حبي لدموع جدّتي الأولى، وهي سخيةٌ جدًا بالمناسبة، وبين إعجابي بصوت جدّتي الثانية مرتجفًا في محاولة للتماسك وكبت دموعها، تعلّمت التصالح مع تناقضاتي وتناقضات الآخرين بوصفها دليلاً على صدق الإنسان وليس على كذبه كما كنت أعتقد. الإنسان مزيجٌ من كل شيء، وممارسة التناقض دليلٌ على أنه يُظهر مزيجه الداخلي براحة ودون تكلف.

***

أصيب الرجل بمرضٍ خطير بات يشعر أن ما يراه نائمًا هو عالمه الحقيقي، وأن الاستيقاظ ما هو إلا دخولٌ في عالمٍ من الكوابيس التي لا تنتهي إلا بالنوم مجددًا.

"يتوجب عليّ إنهاء هذا النهار المليء بالكوابيس، يتوجب عليّ النوم أكثر والتركيز على حياتي الحقيقية التي أكون فيها مرتاحًا وسعيدًا وأتصرف على طبيعتي". يخاطب نفسه هكذا باستمرار، ويبدو أن صوته عالٍ لأن من في الغرفة يلتفتون إليه بتعجبٍ وبخوّفٍ أحيانًا. ماذا يفعل رجلٌ غاضبٌ لأنه يستيقظ؟ كيف يواجه مشاكله في النهار إذا كان غير مؤمنٍ بأن هذا النهار حقيقي؟

وأنت عزيزي القارئ ماذا تقول في عقلك وأنت تتابع نشرة أخبارٍ تكثر فيها حوادث الانتحار، لأن نهار البلاد كابوسٌ لا يطاق؟ بالمناسبة هل تسميها "حوداث" أم أنك متفهمٌ أكثر لطبيعة الأمر؟

***

لا يخرج البطل إلى المغامرة من أول مرة، لأنه بطل يتردد أكثر من غيره. فكل مرة يخرج فيها لمغامرةٍ جديدة تكون بمثابة مخاطرة بالنسبة له لخسارة هذا اللقب. يصبح الإنسان أكثر حذرًا عندما يكون بطلًا!

***

لا تستمتع بالكتابة عن الموتى. كيف تفعل هذا؟ لا أعرف، عليك تدبر هذا الأمر. عليك البحث عن منطقة آمنة تمارس فيها سرد اللغة والمشاعر وقول الحزن دون أن يعجبك ما تقول ودون أن تكتفي، ودون أن تشعر أنّك تدبرت أمر حزنك وحزن الآخرين. على الكلمات أن تظل ناقصة وعلى النص أن يفشل في قول كل شيء، وعلى الموت أن يظل عصيًا على اللغة وعليك أنت أيها الكاتب عن الموت، الحزين على من فارقت، أن تظل حزينًا ومدينًا بقلبك لمن ماتوا لأنك ما زالت متمسّكًا بالحياة التي تخلت عنهم ورمتهم تحت الأرض، عليك أن تعترف أنّك تخونهم حتى لو كانت هذه الخيانة تحدث يوميًا رغمًا عنك. أما الكتابة فإذا كانت تريحك وتمنحك الطمأنينة فأرجوك توقف عنها.

***

للحب رصاصه الخاص كما للموت رصاصه الخاص. ورغم تشابه مفعول الرصاص في تشويش عمل عضلة القلب وإرباكها إلا أنه -أي القلب- يسعى للأول دائمًا ويهرب من الثاني باستمرار.

***

في كل مرة أركب سيارة أجرة أفكر في خطط للهرب في حال حاول السائق اختطافي (خيالي مريض). رجلٌ أبيض ذو طابع ريفي جسده مليء بـ"التاتو"، حتمًا لا يحب أن يرى فتاة عربية تجلس بالقرب منه في متنزهٍ عامٍ في "بلاده أمريكا" (فوبيا التواجد في الأماكن العامة). أُخبر الناس هنا بأنني من القدس رغم أنني لست من القدس لأتجنب ذكر فلسطين عندما يكون ذكر فلسطين والنقاش الجغرافي والسياسي حولها أمرًا شاقًا على قلبي، ولكن ذلك لا يمنع الكثيرين من التساؤل: هل أنت يهودية أم مسلمة إذًا؟ يُعلمني سؤالهم أننا نفترض أن الناس تعرف أكثر مما هي تعرف بالحقيقة. تتوقع أنهم سيعرفون من أنت بمجرّد أن يروك أو يعرفوا اسمك أو يسمعوا لكنتك ولكن احزر ماذا؟ لا، الناس لا تعرفك كما تظن أنهم يعرفوك. أما أنا فأتعلم من خوفي من الناس أنني أسيرة انطباعاتي القديمة التي بنيتها في الماضي الذي لم أكن أعرف فيه ما أعرفه الآن، كم هو حزينٌ أن لا تتمكن المعرفة الجديدة من الانتصار على الخوف القديم في قلبك!

***

في بلاد الشهداء يبني الناس مشاعرهم على الشفقة. الشفقة لدينا مرادفٌ للحب ومرادفٌ للاحترام أيضًا وكثيرًا ما يبدأ الناس جمل الإعجاب والحب بكلمة (يا حرام) ويا حرام هنا مصطلح عامي، وفي هذا السياق يختلف معنى الكلمة عن معناها الديني، فهي تُستخدم ككلمة استهلالية يبرر فيها الناس أسباب حبهم وإعجابهم بالآخرين. فاستشهاد ابن رجل ما - يا حرام - كفيلٌ بضمان الاحترام له مدى الحياة، مثلًا! 


اقرأ/ي أيضًا:

الانتحار.. حين يبتسم الموت للنساء أكثر

هي ثورة على الخير الرديء

هذا الحب لاجئ من يافا