09-نوفمبر-2015

مروة النجار/ فلسطين

لا بد من الاعتراف أول الأمر، قبل أن أكون بائعًا في سوق الخضار والفاكهة، أنا في الأصل بائع هوى. في الليل أخرج من بيتي وأبحث عن أصحاب الحق العام عند الحكومة، أبحث عن مغسلي الموتى والنساء اللواتي يذهبن إلى الأعراس وناقلي التموين للجنود في المعسكرات والعمال، لألقي عليهم خطبي ونظرياتي وضرورة إحداث ثورة اجتماعية في حياتنا تستند إلى مفاهيم الحداثة وحرية النساء بالاختيار والخروج عن سلطة العائلة.

هربت من المقهى وأنا أبكي مدينتي الضائعة التي تحولت إلى غول ينهش لحم البنات والأولاد 

وحين أنتهي من تنظيراتي المعلبة والجاهزة أعود إلى أمي أشتكي من وحدتي وحياتي المملة والرتيبة. مرد هذا الاعتراف، ثلاثة مواعيد مع ثلاث نساء يمتلكن من الجمال والحضور والجرأة والذكاء والتعليم ما يكفي لهز رغبات العالم، وتغيير اتجاهاتها نحو الحرية المطلقة.

في الموعد الأول، وقبل أن ننهي فنجان القهوة، أخبرتني صديقتي أنها بائسة وأن هناك "عمل معمول وسحر مربوط"، وضع في قبر في مقبرة المدينة الشرقية، كي لا تعمل ولا تنجب الأولاد. أخبرتني ذلك بسهولة ويسر دون أن ألح في أسئلتي. أستطيع أن أقول إن اللقاء كان زاخرًا بالمكاشفات، وأني مثل شيخ يعالج مرضاه بقراءة القرآن، رحت أنصحها بالصلاة والمداومة على قراءة أذكار الصباح، دون أن أنسى بالطبع المعوذات وسورة البقرة. في الحقيقة كنت شيخًا يمسك الفتنة ويخافها، وكنت شاعرًا أهداها العلاج دون أية مقابل عاطفي أو مادي، ودون أن أكون المشعوذ الشرير.

لن يصدق أحد أني هربت من المقهى وأنا أبكي مدينتي الضائعة التي تحولت إلى غول ينهش لحم البنات والأولاد. خرجت متيقنًا أني، في زمن اليأس هذا، قد أكون أنا الآخر مسحورًا لا ساحرًا. ففي اللحظة التي كنت ألعن بها دوري الاجتماعي كذكر تناط به مسؤولية تأسيس العائلة، كان هناك امرأة أخرى تجلس معي وتشرب قهوتها بهدوء وتحاول الخروج من الصورة والإطار، وبدلًا من أن أمسك بيدها وأساعدها للخروج من سجن الأدوار المتوارثة في المدينة المحبوسة فيه، وبدلًا من أن أدلها على حريتها، هربت باتجاه أمي أطلب منها أن تتصل بصديقتها وتطلب منها أن تتصل بصديقتها التي تعرف رقم شيخ يعالج مرضى السحر والشعوذة في المدينة. ضحكت أمي كثيرًا عليّ؛ أنا الكاتب العلماني والمتحرر الذي يدعو إلى الحداثة وقيمها ويطالب أخته بنزع الحجاب، كيف بي أن أطلب رقم شيخ لطالما قلت إنه دجال؟

أعترف كنت نذلًا، لم أرجع للاتصال بصديقتي ولم أطالبها بالخروج معي بعد ذلك. وبعد انتهاء لقائي بها فكرت كثيرًا في سؤال: كيف تستطيع امرأة أن تقول أسرارها الصغيرة، مثل هذه، لرجل عابر حتى لو كان كاتبًا؟ يعني ذلك أني فكرت مثلما تفكر مدينتي، وأني أكتب الآن مثل كل الكتابات الذكورية بكذب وادعاء.

على أية حال، بعد التعافي من الموعد الأول قلت في نفسي: ما دمت تتسكع في الطرقات دون أن تفعل شيئًا، فلتجرّب ثانية يا ولد. أعجبتني طبيبة في المدينة، ولأني لم أفكر في الفروق الطبقية دعوتها إلى لقاء هامشي في مقهى مكشوف وفي العلن. ولأن النساء الكاملات يتأخرن دائمًا بهذا الشكل طلبت لي البيرة قبل أن تأتي تحسبًا، وانتظرت. 

تناقض الكاتب ونصه وما يقوله مع الواقع ينتج مثقفًا بحاجة إلى إعادة تركيب 

عندما دخلت كانت أجمل من أن يفوز بها عامل في السوق، ثمة خلل طبقي فأنا مجرد عامل في تجارة أبيه. قلت لصورتي المعكوسة على شباك المقهى: على الأقل أنت عاملٌ في تجاره أبيك ولست حمالًا يجر عربة، فلتدخل يا ولد بقلب جريء. وبقلب مزدحم بالعربات وبأصوات الباعة في السوق دخلت. في الحقيقة كنت مثل ذلك الولد الذي قطع الشارع ليجرب إن كانت السيارات ستدهسه أم لا. 

في الوقت الذي كانت تحدثني فيه عن إدوارد سعيد وحلمها بدراسته، دهستني الحافلة ولم أعد أستطيع التحدث، كانت تحدّثني عنه كما لو أنه ربّ أسرتها، كما لو أنه مرّضها في الحمى، كما لو أنه مشّط شعرها وألبسها المريول وقادها من يدها إلى المدرسة. ثم تحدّثني عنه كما لو أنه صديق قديم انقطعت أخباره، ولم يبق منه إلا تلك المحبة السردية التي يتركها الغائبون كالدمامل فوق القلوب. ثم تحدّثني عنه كما لو أنه أول من قبّلها، وأول من سار بأنوثتها إلى ذرا لن تعرفها لاحقًا. تحدّثني وتنسى أنها "كولونية جديدة"، ولا بد من أدوات ومفاهيم من معجم سعيد من أجل تفكيكها. 

أثناء ذلك كنت أحدثها عن طريق البيت برومانسية شاعر يبحث عن حب وامرأة مثلها تمامًا، ونسيت أني أعرف إدوارد سعيد وأنه كان صديقي في الجامعة يحضر في نقاشاتنا في المحاضرات ويمشي معي في هامش الجنازات الطويلة في زمن الانتفاضة الثانية، نودع أصدقاء ونهتف خلف قادة الحركة الطلابية الذين ذهبوا شهداء أيضًا. أردت تلك المرأة بجنون منقطع النظير، طاردتها لأشهر وأنا أحاول أن أقنعها بطريق البيت، كتبت لها القصائد الطويلة والقصيرة، ونسيت وسط اندهاشي بها، أنها حرة أيضًا وتستطيع الاختيار.

في الموعد الثالث جاءت صديقتي وقطعت مسافة أربعة مدن لتحضر أمسية توقيع كتابي دون دعوة مني. أذكر أني توقفت طويلًا عند فكرة أنها قطعت كل هذه المسافة لتحضر الأمسية. دعوتها إلى مقهى  قريب. ورغم أني تركت لأصابعي عن دون قصد أو ترتيب لمس أصابعها، مع أن وجود كتفها بجانب كتفي تمامًا منحني ذلك الشعور بقرب نهاية العالم وتلاشيه. ومع أنني كنت أنظر إليها طوال جلوسنا في المقهى، إلا أنني بعد أن رحلت رحت أتقرب من أخرى، وحتى اللحظة لا أدري لماذا فعلت ذلك! ربما لأن الأخرى غير محجبة وهي محجبة، وتصوراتي المسبقة عن الحياة أو حياتي ترفض فكرة الحجاب. أو ربما لأني اعتدت الذهاب إلى شراء السمك بدلًا من صيده، فاخترت الأسهل والأقرب.

في الجهة الأخرى في قاع القاع تقريبًا؛ أنا كاتب نبيل ورجل نذل. يكون هذا الوصف عندما تكون الحياة والتجارب الشخصية في الحب أو الزواج أو العلاقات خارج الإطار، خاضعة لحياة الآخرين وتجاربهم وحكمهم. تتجاوز المواعيد الثلاثة الشخصية، وتصير أرضية لما هو اجتماعي عام. 

في نابلس أو في أية مدينة ريفية أخرى في العالم العربي، تناقض الكاتب ونصه وما يقوله مع الواقع وسردياته من جهة، وما يفعله في الحياة من جهة ثانية، ينتج مثقفًا بحاجة إلى إعادة تركيب وصياغة لئلا أقول إعادة بناء. لكن لماذا أسوق كل هذه الأشياء؟ فقط لأنني أريد الاعتذار من النساء الثلاث نيابة عن كل الذكور المرضى.

اقرأ/ي أيضًا:

في بيتنا كاتبة

ما يشبه مقاطع فيديو فلسطينية