17-نوفمبر-2018

يُحكى أن الوالي العثماني على بغداد في القرن التاسع عشر داود باشا، كان شديد التعلق بوجبة الكفتة، وله في سيرتها حكايات طريفة، منها أن أحد الطهاة أخطأ ذات مرة فى المقادير أثناء إعدادها، فعاقبة الوالي، ومن هنا صارت تسمّى على اسمه "كُفتة داوود باشا". هذه القصة تُروى أيضًا على أنها حدثت مع داود باشا آخر، هو الوالي العثماني على مصر سنة 1538.

على أي حال، فإن إطلاق مُسمى داود باشا على الكفتة يعود لأحد ولاة العثمانيين، وهذا يجعلنا نصنفها بأنها كانت فيما مضى من طعام الأعيان وميسوري الحال، قبل أن تتحول لطبق شعبي يتشاركه جميع الناس.

الكفتة، أو داود باشا، كانت من طعام الأعيان وميسوري الحال، ثم تحوّلت لطبق شعبي

والكفتة -بضم الكاف أو فتحها أو كسرها- طَعامٌ مشهور من لحمٍ يُفرم أو يدق ناعمًا، وتُضافُ إِليه التوابل والبصل والبقدونس، ويُصنع على شكل أقراصٍ أو أصابعَ أو كراتٍ دائريةٍ. ومن هنا عُرفت الكفتة باسم "كرات اللحم". لكن ما لا يعلمه كثيرون أن الكفتة تُطبَخُ من أي نوع من اللحوم: البقر، الضأن، الدجاج والأسماك.

اقرأ/ي أيضًا: المفتول.. طبخة النبي سليمان

 وأصل كلمة كُفتة في العربية أخذ من "كفّت"، أي فرد بكف يده، وكفت اللحم جمَعه وضمّ بعضَه إلى بعض، وكَتَّفَ اللَّحْمَ أَوِ الثَّوْبَ يعني أنه قَطَّعَهُ قِطَعًا صغيرة. وقيل هي من كلمة "كوفتة" الفارسية بمعنى مسحوق. وقد شاع عند أهل الشام والعراق ومصر تسمية الكفتة بـداود باشا.

وتشتهر هذه الأكلة بتنوعها وتعدد مذاقاتها في بلاد الشام والعراق ومصر ودول الخليج وبلاد المغرب العربي، وتجدها حاضرة في المطبخ التركي والهندي والأوروبي، إذ تعتبرها المانيا من الأكلات التراثية في مطبخها، وتختلف طريقة عملها من بلدٍ إلى آخر.

 ومن المُسلَّمِ به أن دق اللحم وتقطيعه قطعًا صغيرة من أقدم الأطباق المعروفة في منطقتنا العربية، ولا صحة للادعاء بأن مثل هذا الطبق جاءنا من المطبخ التركي. وقديمًا قالت العرب في المثل الشعبي بأن قوام البيت وسر غناه فرن وطاحون وجرن. فالفرن للطبخ، والطاحون لجرش القمح، وأما الجرن وهو الحجر المُقوّر فإنه يُستخدم لدق اللحم وهرسه للكُفتة والكُبة وغيره من أنواع الطبيخ.

والكفتة في العالم العربي شائعة بأنواع كثيرة مثل: الكفتة الشامية، الكفتة العراقية، كفتة الحاتي المصرية، الكفتة الملفوفة بالباذنجان، كفتة داود باشا، كفتة الجمبرى، كفتة البرغل، كفتة الحمص، كفتة الخضار، كفتة السليماني الكردية، كفتة المشواي، طاجن الزيتون بالكفتة، طاجن الكفتة بالفريك، طاجن الكفتة بالبيض..الخ.

أما في مطبخنا الشعبي الفلسطيني الغني والمتشابك مع محيطه، فتُطبخ الكفتة فيه بأكثر من طريقة، وتكمن لذتها في إعداد الطبق بيتيًا، كالصواني واليخنة "داود باشا"، أو شويًا مع الكباب واللحم، حيث يُصنع منها أصابع طويلة توضع بأسياخ الشواء فتنضج سريعًا.

الكفتة طبق مرن يسمح بإضافة الخضار والتوابل وزيت الزيتون له، ويُقدم مع الخبز أو الرز

وتدخل الكفتة فلسطينيًا في جملة من الأكلات وتركيبات الحشوة والحوسة والشوربة والمقالي. وهي طبقٌ مرن يسمح بأن يدخل معه بعض الخضار كالفلفل الاخضر وشرائح البندورة والبطاطا والبصل. ويمكن أن يُضاف لأطباق الكفتة، الثوم والكراويا المطحونة والبقدونس والجزر والفليفلة. كما تضاف لها التوابل كالفلفل الحار (الكاري) وورق الغار والهيل المطحون. وتُطيب أيضًا بالقليل من زيت الزيتون البلدي. ولا بُد من رشّة ملح فـ"الأكل الدلع ما بينبلع". وهي مع ذلك لا تُقدم إلا مع أهم ركيزتين في المطبخ: الخبز أو الأرز.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | زرب في الطبيعة

واللطيف أن الفلسطينيين يُضيفون كمية من الدهن (اللية) للحمة الكفتة قبل الفرم، وذلك كي تكون طرية وغير جافة عند الطبخ أو الشوي، ويضعون معها كمية لا بأس بها من البقدونس الأخضر والبصل، وهو يعطي طعمًا وطرواة للكفتة أيضًا.

ولعل أشهر ثلاثة أطباق رسيمة للكفتة الفلسطينية هي التالية:

كفتة الصواني: تطبخ في الفرن أو الطابون كصواني مع البندورة أو مع الطحينية، وفي كلاهما يمكن إضافة قطع البطاطا لها، ووضع شرائح البندورة على وجه الصنية، وذلك لهدفين: زيادة الكيمة وتحسين مظهر الصنية. وبعد نضجها يتم تحمير وجهها، لتُقدَّم للأكل تغميسًا بالخبز. وصواني الكفتة تصلح لأن تطبخ على شكل كرات صغيرة أو مفرودة على "الصينية"، وكلاهما شائع ومعروف في مطبخنا الشعبي. وتكمن لذتها بنضجها وتحمير وجهها خُصوصًا إذا كان الوجه من شرائح البطاطا أو البندورة.

داود باشا (يخنة الكفتة): في هذه الحالة تُطبخُ الكفتة مع صلصة رب البندورة أو الطحينية أو اللبن الرائب كما في بعض المناطق. وتقدم مع طبق من الأرز الساخن كوجبة غداء رئيسية. ولذّة مذاق هذا الطبق تكمن في إجادة طبخ الكفتة بصلصتها.

كفتة الورق: وتكون هذه الطبخة من ورق العنب (الدوالي) المحشو بكرات الكفتة بدلاً من الأرز، و يتم طبخها في الفرن -كالصواني تمامًا- بعد أن يُضاف لها القليل من زيت الزيتون، وشرائح البطاطا والبندورة والفلفل الاخضر، وهو طبقٌ شهيٌ تشتهر به مدينة الخليل أكثر من غيرها.

كفتة المناديل: المناديل هي شحمة بطن الخروف ويتم حشوها بالكفتة مع البصل والفلفل والبهارات والكمون والثوم المطحون والكزبرة الناشفة، وتلف ككرات أو أصابع أو صواني صغيرة، وتشوى بالفرن. وآخرون يضعون بجانب مناديل الكفتة في ذات الصينية شرائح بصل وبندورة وبطاطا وفليفلة خضراء. وهناك من يجعل مناديل الكفتة من جملة المشاوي وليس الصواني.

والمتتبع للمطبخ الفلسطيني يرى اهتمامًا بمثل هذا الأكلة التي تتصف بكونها طبقًا عائليًا مميزًا يصلح لأكل العائلة، كما يصلح في الولائم والعزائم الرسمية. ولا يخفى علينا بأنها أكلة سريعة الإعداد، جميلة المذاق، سهلة المكونات، ولأجل ذلك لا تترد الأم بإعدادها كلما شعرت بضيق وقتها وضرورة عمل طبخة سريعة لعائلتها.


اقرأ/ي أيضًا:

أكلات لا يعرف مذاقها إلا الغزيين

الجريشة.. من البيدر إلى موائد الأفراح

لحم الفقراء في تراث فلسطين