26-يوليو-2018

صورة تعبيرية - (getty)

في هذا اليوم، بينما أنت تنظر إلى الحياة بامتنان، ثمة من يبكي في غزة. ثمةَ من أنهك قلبه حلمٌ طويلٌ يأخذه كل ليلةٍ رحلةً في السماء، ثم يعود به إلى الأرض دون أن يسمح له بلقاء الأحبة.

يستيقظ محمد النجار من نومه كلما مرَّ تاريخُ اليوم هذا: (26-تموز/حزيران) على وقع خطى طيف "الغياب" يقترب منه ليهمس في أذنه: (كلهم ذهبوا.. وأنا وحدي هنا معك). يعصب عينيه أمام صورة الموت وهو يربّت على كتف الذاكرة ليعود به إلى ما قبل أربع سنوات؛ عندما اغتالَ صاروخٌ أطلقته طائرة F16 إسرائيلية عشرون "ضحكةً" وجنينًا كان آخر يومٍ له في بطن أمه، هو ذاته تاريخ موته، حدثَ ذلك ذاتَ "حرب".

    النار لم تترك له ذكرى واحدة، كل الأشياء ماتت هناك، ماتت كما مات الجميع، وتركته وحيدًا هُنا "يدفع من ثنايا روحه ثمن الغياب"  

بمسافة "رمشة عين"، وبين همهمات المتطوّعين للإنقاذ، سمع "محمد" من تحت الركام أسماءهم، كانوا عشرين! كلهم استشهدوا، حتى "غالية" ذات العام والنصف، والحبيبة "إيمان".. أمه وأبوه وأختيه وأخٌ يصغره بعام، محمدٌ نجا بأعجوبة بعضهم يقول: "حدث ذلك كي لا تموت الحقيقة". ماذا حدث في ذلك التاريخ؟ ماذا عن آخر ضحكةٍ وآخر دعوةٍ وآخر نظرة؟ دعونا نرى ماذا سيخبرنا محمد.

كفاح وأمي.. غالية وإيمان

"قبل ما أحكي أي شي، بدي أعتذر من كل مواليد هذا التاريخ (26 تموز/ يوليو) لإني بسمّي تاريخ ميلادهم (التاريخ الأسود). بحاول أغطّي عيوني لما يمرّ لأني ما بشوف فيه غير العتمة والدخان والدم"، قالها محمد النجار بنبرةٍ مرتعشة، ثم استجدى ابتسامةً من صُلب القهر، قبل أن يبدأ بسرد الحكاية ويعود إلى تلك الليلة.

وقف أمام النافذة تحت أزيز الطائرات الحربية يترصّد أين وقع آخر قصف، قال لنفسه بينما كان يتتبع بناظريه ضوء طائرة استطلاع :"الحرب بدأت في 8 الشهر، صارلكم 18 يوم الله لا يوفقكم.. الله يجملها بالستر وبس".

في كادر المشهد، جلجل صوت أخته كفاح (التي تعاني من إعاقةٍ عقلية)، تتناوش كالعادة مع جارةٍ تتعمد إثارة حفيظتها "حبًا" كلما مرّت قرب دارهم فوجدتها تجلس عند الباب برفقة أمها. ابتسم محمد وهو يسمع ضحكات الجارة المشاكسة التي نجحت في إيصال كفاح إلى آخر مراحل الغضب لتقول بكلماتٍ شبه مفهومة: "يا رب ينزل صاروخ ويخلصني منك"، لترد عليها الجارة بعد أن عانقتها تطيّبُ خاطرها: "يا رب اللي بيكرهوكي.. إنتي حبيبتي، إذا رحتي مين بدي أشاكس أنا؟".

على سريره؛ أسند ظهره المتصلّب من الجلوس خلف مقود "التوكتوك" إلى وسادةٍ طرية، وأرخى أحبال صوته المنهكة من النداء طوال النهار على "أطباق البيض" في شوارع "بني سهيلا" شرقي خان يونس جنوب القطاع إلى ما يشبهُ الصمت المُطبِق، غاب في غفوةٍ فباغته في الحلم صاروخٌ اخترق بطنه.. هبّ فزعًا ينادي زوجته "إيمان" التي تركها في الصالة تضع يدها على ظهرها وتمشي استعدادًا لاستقبال مخاضٍ كان يبدو قريبًا.. قال لها :"البسي عبايتك يا إيمان".

نظرت إليه مستغربةً مستنكرة، وسألته :"ليش؟ إيش صار؟ مش شايف الشوب والحر اللي احنا فيه؟"، أقنعها هوَ بأن إحساسه يخبره بأنهم جميعًا سيتركون البيت، هذا ما قاله لها فقط، ثم طلب أن تنزل إلى الطابق الأرضي برفقته و"غالية" و"براء" (أختها التي كانت في زيارةٍ لها يوم ذاك) حتى يتناولوا السحور في بيت أمه وأبيه.. قالت: "ولو إني مطمنة.. بس حاضر".

ارتدت إيمان عباءتها، ونزلت بعد أن أيقظت غالية وبراء، تناولوا السحور برفقة أخيه وزوجته وولديه الذين يسكنون الطابق الثاني، وأخيه الأصغر منه بعام، وأمه وأبيه وأختيه وخاليه وأبناء أخته الثلاثة، وابنين لأحد أخواله.

دون أن ينتبه إليه أحد، اقترب من أمه ونكزها وهو الذي كان يعلم بأنها "ماخدة على خاطرها" منه، بعد أن طلبت منه أن يملأ لها برميل الماء فاستأذنها أن تنتظره ريثما يعود من زيارة صديقٍ مصاب، قال لها بخفة ظل: "كيف حالها حجتنا الحلوة؟"، ردّت كأنما تصارع ابتسامة: "كيف صاحبك يما؟"، فأجابها: "بخير.. تزعليش مني"، وضعت يدها ناحية القلب وشهقت: "بزعلش منكم يا حبيبي.. الله يوفقك ويسعدك يما ويرضى عليك إنت وكل إخوانك".

نظر ناحية "إيمان" بعد أن اطمأن قلبه، فإذا بالعيون تلتقي، ابتسما معًا كأنما كان يطمئنها إلى أنّ كل شيءٍ سيكون بخير، وأن غدًا سيكون ابنهما الذي اتفقا على تسميته "أنس" سالمًا غانمًا، جلس وأسند ظهره إلى خزانة صحون (بوفيه أو فاترينا)، وأمام ناظريه كانت أميرته "غالية" نائمة كالملاك، أمسك بكوب شاي، وقبل الرشفة الأولى... كل شيءٍ غاب.

دموعٌ تسبق الخطى

يقول محمد: "شفت نار بتقلب في وجهي.. أول خمس دقايق كان كل تفكيري محصور بإنه البوفيه وقع فوقي، وكنت بستنى أخوتي ماجد وحسين يرفعوه عني".. إيدي اليمين كانت محجوزة بين كتل مش عارف إيش هي، فجأة ومن بين الحجارة ظهر من فتحة صغيرة ضوء كشّاف، صرت أنادي بلهفة.. يا صاحب الضوء.. يا عيسى، يا موسى، يا إبراهيم، سمعت صوت بيسألني :مين جوة؟ قلتله: محمد، وساعتها أصوات التكبير وصلت لعندي".

عندما أزاح الشبّان الحجارة وسمع "محمد" صوت احتكاكها ببعضها بدأت الصورة تتضح، صار قلبه يغلي.. بينما كان يشعر كأنما التصقت بوجهه كتلةً من نار، أمسك الشبّان بجسده وانتشلوه تحت جنح الليل مرةً واحدة، تاركين قطعًا من لحم يده محشورًا بين الحجارة هناك. أغمي عليه ولم يصحُ بعدها إلا في المستشفى إثر رش سائل "البولودين" على وجهه.. صرخ وجعًا، وفتح عينيه فرأى طبيبًا يقلّبُ رأسه.. صار ينادي بينما الأخير يحاول ثنيه عن الجلوس: "يمــــا.. يابـــا.. إيمـــان.. غاليـــة.. حد يرد عليا".

الطبيب حاول تهدئته، قائلًا :"كلهم بخير، إنت الوحيد اللي تصاوبت فيهم.. كلهم بيستنوك برة".

اطمأن محمد لكلام الطبيب، وهدأ غليان قلبه لكن ذلك لم يستمر إلّا لبضع دقائق، عاد يهمّ بالنزول عن السرير، فإذا بالطبيب يقسم له بأنهم "جميعًا ينتظرونه في غرفةٍ أخرى"، هو لم يكن يكذب مع فرق "الحقيقة" الشاسع بين معنى "الغرفة" الذي قصده، وثلاجات الموتى في مستشفى ناصر الطبي.

بعد وقت، انشغل الطبيب مع حالةٍ أخرى، الساعة اقتربت من العاشرة صباحًا تسلل إلى الخارج ليصطدم بابن عمته الذي فشل في إقناعه بأن أحدًا لم يُصب، لينهار فجأة ويخبره: "إنت يا محمد مؤمن.. كلهم استشهدوا، إنت البوفيه حمى جسمك، وأخوك حسين لإنو كان نايم في البلكونة، لاقوه متصاوب على بعد 40 متر من الدار".

   "يا محمد.. كلهم استشهدوا، إنت البوفيه حمى جسمك، وأخوك حسين لإنو كان نايم في البلكونة، لاقوه متصاوب على بعد 40 متر من الدار".   

"كيف يعني كلهم؟" سأله محمد بصوتٍ يرتعش وسط دموعٍ كانت تنهمر.. تحرق وجهه المتفحّم وقلبه معًا! كل من عاشوا المشهد بكوا وهم يحاولون تهدئته، بينما هو لا يسمع سوى صوت آخر دعاءٍ همست به أمه في أذنه.

مشى نحو الثلاجات يتخيّل إيمان، يسأل نفسه عن "أنس" الصغير الذي جهّزت أمه حقيبة أغراضه قبل ساعاتٍ فقط! يسألها عن "غالية"؟ هل تضحك كما دائمًا؟ ماذا حلّ بكفاح؟ هل ستُبعث في الجنة دون إعاقة؟ كل الخطوات كانت تسبقها الدموع. الوجه المحترق ذاك رأى في الثلاجات ما لا يمكن لكلمةٍ أن تعبر عنه.

"حسيت لما حملت غالية وضميتها لصدري، إنها فراشة.. كانت خفيفة كتير ومرتخية، كأنها نايمة.. سألتها: يابا يا غالية قومي يا حبيبتي، لمين بدي أجيب بكرة لبن بالفراولة؟ مين بدو يجري ناحيتي يابا وأنا حامل كيس الشيبس، ويرفع إيديه علشان أحمله وأطيره في السما؟ إصحي يابا إصحي". كان يهزُّها دون أن ينتبه إلى أنه بدمعه غسل عن وجهها رماد الركام كله!

طلب رؤية إيمان، فرفضوا، "يقولون لم يعرفوا لها يداً من رأس.. من جنين"، ودّع أبيه وأخيه الصغير ماجد، وخاله خليل وابني خاله، وزوجة أخيه حسين، وابنيه معتز وسمير، وأختيه إخلاص وكفاح.. كانت إخلاص في رفٍ واحد برفقة أطفالها الثلاثة إسلام وأمير وأميرة أبو شهيلا، وبدت كفاح "ست العرايس". سأل عن أمه، فإذا بابن عمته يقول له: "بلاش تودعها، ادعيلها في سرّك".

عرف بعدها بأيام أن المنقذين عثروا على نصف جسدها السفلي ملفوفًا بثياب الصلاة، فيما النصف الآخر كان يرتدي القطعة الأخرى من الثوب على عمق 12 مترًا تحت الأرض!

"ثمن الغياب"

هرب "محمد" من المستشفى خلف عربة البلدية التي نقلت لحظتها الجُثث، وصل إلى المقبرة، وجلس يبكي على حجر.. دموعه ولفحات الهواء ورمل المقبرة كانت كلها تنخر عظام وجهه المحروق، ومع كل جثةٍ كانت تُغطى بالتراب، تمر أمام ناظريه ذكرى لها، ضحكات خاله، ولمة الأطفال وألعابهم الشقية، ضحكة غالية! غالية التي أسماها على اسم أمه ودعا لها حين رآها نائمةً في آخر لحظات عمرها أن "اكتُب لها يا رب أيامًا أحلى، وأبهى، وأنقى من أيامنا هذه".. نظرات إيمان الخجولة وهي تستجدي الطمأنينة من عينيه خشيةً من هول آلام المخاض.. قلبُ أبيه الذي "ياما" اتسع لعثراته وزلّاته، ودعوات أمه.. تلك التي كانت تغنيه عن الدنيا -وإن عاد مكسورًا- برزقٍ قليل.

   كان لا بد للحياة أن تستمر، وأن تعود الأسماء لتحيا من جديد..   

في تلك الليلة نام "محمد" في بيت عمٍ له يبعد عن مكان القصف قرابة الكيلومتر ونصف، لا يدري ما الذي جعله يتذكّر أن عليه رؤية وجهه في المرآة، يصف تلك اللحظة بقوله: "صرخت.. أنا نفسي ما عرفت نفسي.. شعري كان ذايب مثل شمعة، ما في رموش، وجهي كان مثل فحمة سودة، وكل جلدي سايح، صرخت! إجا عمي وسحبني بقوة، وكسر المراية.. في لحظتها صرنا نصرخ ونبكي سوا".

شُفِيَ وجه محمد سريعًا، تزوّجَ بعد عام. كان لا بد للحياة أن تستمر، وأن تعود الأسماء لتحيا من جديد.. أنجب "غالية" أخرى، ولديه من زوجته الجديدة "غزل" كذلك. هو اليوم يعمل في محل لبيع الدواجن قرب بيته، يحكي قصّته لكل من مرّ عليه هناك "هو يؤمن بأن هذه الطريقة قد ترسّخ لحقِّ عشرين روحًا في محاكمةٍ عادلة لقاتلهم، وإن بعد عشرات السنين". عاد بيتهم بطابقين، أحدهما له والآخر لحسين.. يمر عليه الشهر فيذهب إلى المقبرة قرب الحدود، يقبّل تراب قبر أمه، ويدعو بالرحمة والمغفرة لكل الأسماء هناك.. في مساء الفقد هذا (26-7) يمشي "محمد" هائمًا على وجهه بعيدًا عن البيت لأنه "لا يرى قيمةً للمكان من دون ذكريات". النار لم تترك له ذكرى واحدة، كل الأشياء ماتت هناك، ماتت كما مات الجميع، وتركته وحيدًا هُنا "يدفع من ثنايا روحه ثمن الغياب".

صور لشهداء عائلة النجار

اقرأ/ي أيضًا:

رجلٌ يعيش في نشرة أخبار

في تطريزِ أنفسنا عبر الذاكرة

عدوان غزة 2008: يوم اسودّت دنيا فاطمة!

مغلوب وغالب.. الذاكرة الشفوية في مواجهة المكتوبة

عندما كان الأمل في الحياة "صفر".. روايات ناجين من حرب 2014