11-يناير-2017

العامل المشترك الذي حد من قدرة إسرائيل على التلاعب، كما جرت العادة، في رواية جريمة إعدام الشاب عبد الفتاح الشريف في الخليل، وفضح في الوقت ذاته هروب جنودها في عملية جبل المكبر التي نفذها فادي قنبر، كانت الكاميرا. وفي كلا الحالتين جاء نشر الفيديو عن طريق جهاتٍ غير خاضعةٍ للرقابة العسكرية الإسرائيلية على الإعلام.

في ملف الشريف نشر التوثيق مصورٌ فلسطينيٌ متطوعٌ في جمعية حقوقية. وفي عملية الدهس، كانت قناة "CNN" الأمريكية أول من بث شريط الفيديو الذي وثق فرار مئات الجنود في اللحظات الأولى من العملية. وفي كلا الحالتين نجح الإعلام الإسرائيلي المجند لصالح رواية الجيش في تسخير ما وثقته الكاميرا لتبرير سلوك جنوده.

هروب الجنود جعل عملية فادي قنبر تستمر 45 ثانيةً رغم أن العمليات الفردية المماثلة تستغرق غالبًا 10 ثوانٍ فقط

مشهد فرار حوالي 300 جنديٍ معظمهم من وحداتٍ قتاليةٍ أتاح للفدائي قنبر إطالة أمد هجومه إلى 45 ثانيةً استثمرها في إعادة دهس الجنود الذين داستهم عجلات شاحنته في البداية، فكانت الحصيلة مصرع أربعة جنودٍ وإصابة 13 آخرين بعضهم أصيبوا بعاهاتٍ مستديمة، علمًا أن المتوسط الزمني الذي تستغرقه الهجمات المنفردة لا يتجاوز في معظم الحالات 10 ثوانٍ.

اقرأ/ي أيضًا: فادي قنبر سبق "الشاباك" بخطوة

عندما تتأخر ردة الفعل الأولى على هجومٍ يستهدف ميدانًا يتواجد فيه مئات الجنود لهذه الدرجة، فإن صورة الجندي الإسرائيلي الذي يفترض أن يبادر إلى الاشتباك مع الفدائي كما دأبت الأدبيات الصهيونية على تصويره  ستهتز في عيون مجتمعه وستنخفض منسوب الثقة به.

بعد نشر شبكة "سي أن أن" الفيديو اضطرت الرقابة العسكرية الإسرائيلية السماح لوسائل الإعلام العبرية بنشر فيديو فرار الجنود، وبعد ساعاتٍ من ذلك بدأ المراسلون العسكريون الإسرائيليون بتبرير هرب الجنود باختلاق مصطلح "تأثير عازاريا"، في إشارةٍ للجندي الذي أعدم الشاب عبد الفتاح الشريف رغم أنه كان جريحًا ولا يشكل خطرًا على أحد، وأدين بذلك قبل أيامٍ فقط من عملية جبل المكبر.

استدعاء ملف إدانة الجندي "عازاريا" لتبرير الهرب جاء بعد موجة غضبٍ تشبه حممًا بركانيةً أطلقها الجمهور الإسرائيلي تدفقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتم الأمر بلا شك بإيحاءٍ من الجيش للمراسلين العسكريين وهم في معظمهم ضباط احتياط.

لكن الربط الذي جاء على عجلٍ بين الحالتين لم يكن محكمًا ولا مقعنًا، وتضمن ثغراتٍ لا تنطلي على مجتمعٍ غالبيته العظمى حفظ تعليمات إطلاق النار التي تدرب عليها خلال خدمته الإلزامية في الجيش، التي تصنف "المبادرة إلى الاشتباك" على أنه واجبٌ في مثل حالة عملية جبل المكبر. وحتى خوف الجنود الهاربين من فادي قنبر، من مصيرٍ يشبه  "عازاريا" إن صح فإنه يعتبر جبنًا، ويكون الجندي قد فضل النجاة بنفسه على تأدية ما يعتبر "واجبه سواءً حماية نفسه ورفافه ودولته".

استدعاء قضية قاتل الشهيد الشريف لتبرير هروب الجنود في جبل المكبر لم يكن مقنعًا ولا ينفي أن الجنود جبناء

وبعد ساعاتٍ من اجترار "فرية مبرر عازاريا" لتبرير الهرب، عثر الجيش على مبررٍ جديدٍ ردده ضباط احتياطه الذين يعملون كمراسلين عسكريين على شكل سمفونيةٍ اختلفت في بعض تفاصليها من وسيلة إعلامٍ لأخرى، ولكن "اللازمة الموسيقية" كانت واحدة. "تخيلوا لو أن الجنود الـ300 فتحوا النار، كان سيسقط قتلى بالنيران الصديقة، وفي النهاية المهاجم قتل بنيران الجنود".

خلاصة الأمر أن استخدام إدانة الجندي أليئور عازاريا، جاء بشكلٍ مرتجلٍ وأعطى مفعولاً عكسيًا، ولكن "خطة استخدام ملف عازاريا" الأصلية حققت في مراحلها الأولى  نتائج باهرة، من أبرز أعراضها عجز الفلسطينيين وخصوصًا على الصعيد الإعلامي عن تفسير إدانة المحكمة العسكرية الإسرائيلية لـ"عازاريا" بالقتل غير المتعمد، الأمر الذي أضفى على القضاء العسكري نوعًا من الصدقية، رغم أنه أبشع أدوات الاحتلال، حتى أن منظمة "بيتسيلم" الحقوقية الإسرائيلية توقفت عن تقديم الشكاوي أمامه بخصوص اعتداءات الجيش على الفلسطينيين، لأن الغالبية العظمى من الشكاوي بحسب دراسةٍ أعدتها يتم إغلاقها دون فتح تحقيقٍ أو توجيه لوائح اتهامٍ بحق الجنود.

النيابة العسكرية الإسرائيلية وجدت نفسها مضطرةً تحت ضغط الفيديو الذي يوثق حادثة إعدام الجريح الشريف، لتقديم لائحة اتهام بحق "عازاريا" الذي تحول لـ"كبش فداءٍ مؤقت"، ريثما يتم العفو عنه كما حدث في أكثر من حالة إعدامٍ أبرزها إعدام ضباط جهاز المخابرات "الشاباك" صبحي ومجدي أبو جامع في عام 1986 بعد اعتقالهما. حينها وُجهت لائحة الاتهام للقتلة بعد أن فضحت صورةٌ نشرتها صحيفةٌ عبرية ٌتم إغلاقها لاحقًا صورة اعتقال الشابين، الأمر الذي فضح كذبة أنهما قُتلا خلال اشتباك.

ولكن الهدف الرئيسي من وراء إدانة "عزاريا" التي يحولها إلى "جريمةٍ مكتملة" هو قطع الطريق على الفلسطينيين إن قرروا ملاحقة ضباطٍ وقادةٍ إسرائيليين على خلفية "الإعدامات الميدانية" أمام محاكم دولية.

ويأتي هذا انطلاقًا مما يعرف في إسرائيل بـ"القبة الحديدية القضائية"، التي تعني توجيه ضربةٍ استباقيةٍ قضائيةٍ ليس فقط لتحاشي ملاحقة مسؤولين وضباطًا إسرائيليين أمام محكمة الجنايات الدولية، وإنما أيضًا أمام محاكم دولٍ يتيح قانونها المحلي محاكمة أشخاصٍ ارتكبوا جرائم ضد أشخاصٍ آخرين، رغم أن تلك الجرائم لم تقع على أراضيها، وهذا الخطر واجته إسرائيل في الشكوى التي وُجهت في بلجيكا ضد رئيس وزرائها الأسبق أرئيل شارون.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن كل نائبٍ عام في أي بلدٍ يريد أن يقرر قبول شكوى ضد إسرائيل أو رفضها، يتوجب عليه أن يسأل: "هل هذه الدولة التي قدمت ضدها شكوها لديها نظامٌ قضائيٌ، ومنظومة تحقيقٍ قادرةٍ على التحقيق في مثل تلك الشكاوي؟". فإذا كانت الإجابة نعم فإنه لن يفتح ملف تحقيق، وهذا هو الدافع الرئيسي لإدانة "عازاريا" الذي غفل عنه الفلسطينيون.

اقرأ/ي أيضًا: 

عن السجال الفلسطيني حول إدانة تركيا لعملية القدس

مصوّر فيديو إعدام الشهيد الشريف يعيش مسلسل رعب

عن الفدائي فادي وشاحنة الانتفاضة