08-يونيو-2016

(Getty) جندي يحرس مستوطنة قرب الحدود مع الأردن

يسهل على مراقب السجالات الإعلامية وعلى السوشال ميديا ملاحظة أن الاختلاف في وجهات النظر حول قضايا التطبيع يتوسع ويتذرر إلى مستويات غير مسبوقة. يظهر التطبيع كشيء خلافي، تهمة يلقيها أناس ويردها آخرون، تلاعب وتدافع مستمر، ومناكفات لا تنتهي.

الاختلاف في وجهات النظر حول قضايا التطبيع يتوسع ويتذرر إلى مستويات غير مسبوقة

لم يكن الأمر على هذا الحال في ما مضى، قبل سنوات ربما، كانت المفردة ثقيلة وتثير ردود فعل هائلة، والأهم كانت بديهية لا تحتاج لشرح كثير. الأمر اختلف، والأسباب كثيرة، وهنا محاولة لرصد بعض أسبابها انطلاقًا من الحوارات والسجالات بشأنها، مع التركيز على ما ساهم فيه سلوك مناهضو التطبيع تحديدًا.

اقرأ/ي أيضًا: طرد عكاشة من البرلمان وألعاب مقاومة التطبيع

- أول ما يلاحظ على قضية التطبيع هو التمييع والاستدراكات والتحوطات غير واضحة المبررات التي طالت المفهوم، وهذه كثيرة والأمثلة عليها تتكاثر يوميًا، وأدخلتنا في مرحلة أصبح فيها موضوع التطبيع سجالًا كلاميًا أو بمثابة مناظرة، صاحب الصوت الأعلى والتفرغ الأكبر للسجال فيها هو من يحدد إن كان الأمر تطبيعًا أم لا. مثال ذلك زيارة فلسطين بتصريح أمني بدلًا من الفيزا، الأمر بدأ بمثابة تطبيع في أعراف الغالبية، ثم مع تكاثر المدافعين عنه والمساجلين بشأنه تحول مع الزمن إلى فعل غير مستنكر وغير تطبيعي. من المفيد هنا التذكير بسجال السلطة ورئيسها والدعوة لزيارة القدس وفتاوى القرضاوي ضد الزيارة. هذا الجدل لا يعتمد في أساسه على تحديد ما هو التطبيع بقدر ما يعتمد على القدرات السجالية والأدوات الإعلامية لدى كل طرف، والانشغال بالسجال ساهم فيه مناهضو التطبيع حين تحولت المعركة ضده إلى معركة إعلامية وفي مساحات ثقافية بدل الانهمام الجاد في تحديده بصلابة.

- على صلة بالسابق، عدم الوصول إلى تحديدات يمكن تداولها شعبيًا لما هو التطبيع، وظل الأمر بحاجة لمناظرات وخطابات طويلة وتنظيرات لا ينشغل العقل العام/الشعبي بها ناهيك عن عدم قدرته على فهمها، وعدم تفرغه لمتابعة السجال بشأنها. بل إن كثيرًا من "المثقفين" باتوا يركنون إلى الرأي السائد أو يعمدون إلى عناوين بعينها للسؤال إن كان نشاط ما يعد تطبيعًا، دون بذل الجهد الكافي للفحص والتدقيق وبناء تصورات خاصة بهم.

- تلا ذلك، حصر ثم احتكار الحديث في مسائل التطبيع في جهات بعينها ثم تصدُّرها لتكون جهات مُعَرِّفة لما هو تطبيع أو لا، وهو ما يترتب عليه التعامل مع الأمر كسلطة ذات فتاوى في هذه المسألة، وإن كانت هنالك إيجابيات في وجود جهة متفرغة للقيام بحملات إعلامية وتوضيحية لطبيعة النشاطات التطبيعية، فإن اعتماد هذه الجهات كمصدر موثوق وحيد للبت في نقاشات كثيرة صار ذا أثر سلبي، وأوقعها احتكار هذا الخطاب أو تكريسها لتوليه في مزالق الانشغال بحالات وعدم الاهتمام بغيرها أو الانتقائية في إصدار البيانات أو عدم قدرتها على إصدار بيانات في كل مناسبة. فما بالك باحتمالات إساءة استخدام هذه السلطة والتصرف وكأن هنالك جهة تمنح شهادات وطنية وتحرم منها! ثم إمكانية الضغط على هذه الجهات واحتكار قرارها وسلوكها أو دخولها في توزنات سياسية مختلفة، كأن تنشغل بالتحذير من التطبيع الرياضي وتسكت عن التنسيق الأمني بل وتجتمع بوجوهه والقائمين على أمره في حملات وأنشطة لقاءات.

تتحول مواجهة التطبيع من فعل موجه لإسرائيل، إلى فعل صدامي داخلي لا يعني إسرائيل بشيء

- العلاقة الشخصية والأهواء الخاصة والتخفيف من فداحة فعل إن صدر عن جهة، وتهويله إن صدر عن أخرى، وهذا من أهم أسباب حالة التشتت المتزايدة في الموقف من التطبيع. فالهجوم يتعاظم ويتخذ أشكالًا غير مسبوقة في حال كان المطبع ينتمي لفريق مغاير، ويكاد يُدارى ولا يناقش إن كان من فريق حليف أو ما شابه.

اقرأ/ي أيضًا: تونس.. جدل تجريم التطبيع يتجدد

- اعتقاد كثيرين، عن سوء نية أو حسنها، أن الانشغال بالتطبيع هو السلوك النضالي الوحيد الممكن لهم، بل يبدو هذا النضال من اختصاصهم، ما يجعل كثيرين يعتبرون عنفهم اللفظي والفعلي ضد المطبعين موجهًا لإسرائيل نفسها، وهذا ما يوقع في تطرفات غير محسوبة، لا تأخذ في الحسبان إمكانية الخطأ أو الجهل في حالات كثيرة، وهذا ما يراكم عنفًا مضادًا وربما مضيًا في النشاط التطبيعي كرد فعل على الاستعلاء والعنف الذي يمارسه مناهضو التطبيع. وفي حال توفرت أمثلة عن حالات كان الهجوم أقل حدة، فإن مبررات العداوة المتصاعدة ستزداد، وتتحول مواجهة التطبيع من فعل موجه لإسرائيل، إلى فعل صدامي داخلي لا يعني إسرائيل بشيء. ومن البديهي القول إن من مسؤولية مناهضي التطبيع عدم الوصول بالأمر إلى هذه المستويات، فالمطلوب هو إيقاف التطبيع وتحجيمه لا الانشغال بالهجمات الإعلامية.

- إن الانشغال بالتطبيع يفرض رزمة من الأخلاقيات المهمة لمن يتصدى لها، اليوم نرى مدافعين عن الاستبداد وسفك دماء والطائفية، يتصدون لقيادة حملات مواجهة التطبيع، هذا ما يسبب في حالات كثيرة نفور كثير من مناوئيهم مما يحملون من شعارات وقضايا، واندفاعًا إلى نقيضها دومًا. وهنا لا يمكن بحال فصل المقولة أو الرأي عن صاحبه، إن كان صاحبه يستخدمه لتبرير قهر وظلم وعدوان آخر. فحين تسأم الشعوب من الحديث عن القضية الفلسطينية فهذا ليس موقفًا أصيلًا ضد القضية بقدر ما هو رد فعل على استغلال النظم المستبدة لها لقهرهم، وهذا ينسحب على نخب النظم المستبدة في حديثها عن التطبيع. خاصة إن كانت تراكم رصيدا رمزيا من مناهضتها للتطبيع وتمرر بمعيّته مهادتنها للاستبداد والظلم. ولعل من المهم جدًا في هذا السياق لفت الانتباه إلى أن مناوئي الاستبداد وخصومه أولى بمواجهة التطبيع، ومن المفترض أن موقفهم الأخلاقي هو ما يفرض عليهم قبل غيرهم المضي لرفضه ومواجهته، ولا يمكن بحال أن يضيع في السجال الموقف الواضح من رفض التطبيع. أما أن يتحرّك المرء تبعًا لمواقف الخصوم دون وعي وبطريقة آلية فهذا مما لا يمكن فهمه.

اقرأ/ي أيضًا: مباراة السعودية فلسطين.. بين رفض التطبيع ورعايته

- إن الانشغال على مستوى إعلامي بإدانة الشخوص أكثر من السلوك، والانشغال بمهاجمة المتورطين بسلوك تطبيعي بدل السعي لتطويق أي فرص للتطبيع من خلال الجهد القانوني مثلا، يظل إشكاليًّا، ويسمح بتمرير كثيرين لغاياتهم المختلفة عبر موجة التحفيل ضد المتهم بالتطبيع، وهذا شكل واضح من الاستثمار في الوجدان الشعبي المعارض للتطبيع واستغلال له. وكذلك الأمر مع الانشغال بالفعل التطبيعي بعد حدوثه لا في العمل الجاد والمستمر لمنع حدوثه أصلًا.

باتت تهمة التطبيع تسخدم لتمرير هجمات شخصية وحزبية وتياراتية لا علاقة لموضوع التطبيع به

- أخيرًا التوقف عند حلقة بعينها في السلسلة وعدم جذب النقاش لآخره، فإن كان كل هذا التشويش يطال الأفعال التطبيعية نفسها، فكيف الحال مع الموقف من المطبع نفسه أو الجهة المطبعة والعلاقة معها، ثم العلاقة مع المتعاملين مع الجهة المطبعة، ثم ما الموقف إن كانت الجهات دولًا ونظما وحلفاء سياسيين؟ هنالك استسهال للبت في الامر على مستوى الأفراد والمؤسسات، وتردد ونكوص للبت بالأمر على مستوى التيارات والمحاور والدول.

إن موجة السجال التي تصاعدت بعد لقاء أمين معلوف مع وسيلة إعلام إسرائيلية، قناة i24 الفضائية متعددة اللغات، تكشف إلى أي حد تستخدم تهمة التطبيع لتمرير هجمات شخصية وحزبية وتياراتية لا علاقة لموضوع التطبيع بها، وأن الرد على هذه الهجمات إنما يكون ردًا على الدوافع والمحركات الخفية لها، دون أي علاقة للأمر بالتطبيع نفسه، حتى ليكاد يختفي ويُسقط من النقاش الذي كان الادعاء أولًا أنه قائم حوله وعليه. وهذا ربما من أقبح أوجه التعامل مع هذا الموضوع المصيري واستغلاله، وأسوأ ما في الأمر، أنه يساهم مع الوقت في تفتيت الإجماع حول التطبيع وصولًا إلى استمرائه وتوسعه إلى مستويات غير مسبوقة.

اقرأ/ي أيضًا:

مصر.. التطبيع مع إسرائيل في "برلمان الغبرة"

محاولات "تطبيع الإعلام" تتواصل