19-مايو-2018

صورة أرشيفية: مُتظاهر مقعد قرب السياج الفاصل

"ومنذُ – خمسة وعشرين عامًا – والعدو مبتهجٌ بأحلامه، مفتون بمغازلة الزمن، إلّا في غزّة. لأنّ غزّة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء، لأنّ غزة جزيرة. كلما انفجرت – وهي لا تكفُّ عن الانفجار – خدشت وجه العدو، وكسرت أحلامه، وصدّته عن الرضا بالزمن. لأنّ الزمن في غزّة شيء آخر.. لأن الزمن في غزة ليس عنصرًا محايدًا. إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة.."

من كتاب يوميّات الحزن العادي، وبتصرَّف بما يتعلّق بالزمن؛ إذ كانت أربعة أعوامٍ في الكتاب، وجعلتُها خمسة وعشرون عامًا نسبة لأوسلو ومسارات الزّمن المختلفة التي أخذت تحوُّلاتها تجرِي في شوارع غزّة من جانب، وفي شوارع الضفّة من جانبٍ آخر.

يدفعُنا الزمن الآن في الضفّة – وذلك لُمامًا – إلى برودة التأمُّل في انسداد الأفقِ غير المديدِ أمامنا، ويدفعُ الناس هذا الزّمن في غزّة إلى "الارتطامِ بالحقيقة" الوحشيّة للعدوّ

يدفعُنا الزمن الآن في الضفّة – وذلك لُمامًا – إلى برودة التأمُّل في انسداد الأفقِ غير المديدِ أمامنا، ويدفعُ الناس هذا الزّمن في غزّة إلى "الارتطامِ بالحقيقة" الوحشيّة للعدوّ، ويدفعهم للانفجار. لا تزالُ الضفّة بين حينٍ وحين تنفجر، وترتطم بالحقيقة هي الأخرى، ولكن على مهلٍ، وربّما لأنّها ليست جزيرة، بَل هِي أقرب لكي تَكون قلبًا جريحًا نازفًا، بحيثُ اعتاد سكّان هذا القلبُ الرّحيل إلى التأمُّل البارد، وركَنوا إلى رائحة الدّمِ التي اختلطَت برائحة الملحِ في البحر الميّت. أمّا غزّة فهي لا تكفُّ عن الانفجار، ولا تكفُّ عن عدمِ اعتيادِ الدّمِ، ولا وقت للتأمُّل في غزّة، فيما عدا ساعات اللّيل المظلمة بلا كهرباء، ساعات الترقُّب هذه لغارةٍ هنا وغارةٍ هنا، والإصغاء لصوتِ الجوعِ حينًا، وصوتِ الضَّجر الصاعدِ من الأفئدة حينًا آخر، الضَّجرُ من "عرَبٍ رمَوها خلفَهُم"، والضَّجر من دعاةِ الحضارة وأسيادها.

اقرأ/ي أيضًا: غزة: قصة موت معلن

لا شيء يعقب موت الفلسطينيّ، لا الآن ولا الغد، كما لا شيءَ يعقب موتَ السوريّ، لا الآن ولا الغد، كما لا شيءَ يعقب موت الضحيّة في كلّ حال. فالضحيّة "مجهولة.. نسبيّة"، موتها غامضٌ، لأسبابٍ جينيّة عادة، ولأسباب انتحاريّة عادة أخرى. تُلامُ الضحيّة على موتها، وهذا أمرٌ اعتياديّ، ولكنّ ما هو غير اعتياديّ، أن تَلوم الضحيَّة نفسَها الضحيّة ذاتها على موتها.

- لماذا الذّهابُ إلى السّياج، والدَّفع بالأطفال والشُّيوخ والنِّساء إلى الموت؟

إنّ أحدًا لا يدفعُ لاجئًا إلى الموت، العالمُ يدفعهُ إلى موته، وكما في اقتباسٍ آخر من الكتاب: "من حوَّلني إلى لاجئ.. حوّلني إلى قنبلة.. وأطلقَ اليأسُ سراحي". لقد حوّل العالمُ غزّة، والفلسطينين عمومًا إلى لاجئين، وعندما لا تُقدِمُ الضحيَّة على موتها، تُوصَمُ بالجُبن، وعندما تقدِمُ على موتها؛ أي صُراخها، توصَمُ بالبربريّة.

السِّياج؛ الخطُّ الفاصلُ بين الحقيقة والوهم، السِّلكُ الشائكُ بَينَ الضحيّة والجلاد، وعليها، أي على الضحيّة أن تلتزم الصّمت، أن تموت ساكنَةً هادئة وأن تلوم نفسها.

- لماذا لا تردُّ المقاومة عسكريًا؟

مرةً أخرى، عندما لا تقدِمُ الضحيّة على موتِها، توصَمُ بالجُبن، وعندما تُقدِمُ على موتها، يُسمَّى انتحارًا وبربريّة عبثيّة. ما كان مسيرُ غزّة المُلاطِمُ لحقيقة العصرِ الوحشيّة، إلَّا فعلُ اليأسِ الذي يُطلِقُ سَراحَ الأجسادِ حبيسة تعبها ورهينَةَ يأسها. ما كانوا يُفكِّرون في "إحراج" إسرائيل دوليًا، وهم الأخبَرُ في المجتمع الدوليّ ونفاقهِ الدّائم، بل هُو ما كان شيئًا، إلَّا فعلاً خالصًا من المقاومة، مقاومة اليأس، مقاومة الحِصار، المقاومة لأجل المقاومة.

أكثرُ من عشرِ سنواتٍ مرّت وغزّة لا تزالُ تخضَعُ لمنطقِ الحِصارِ والقَصفِ والقَتلِ، وعندما تصرخُ الضحيَّة وتحتجُّ وتُقتَل: تُلامُ الضحيّة على موتها، على "انتحارها" كما يحبُّ البعض أن يُسمِّيه، وتُلام على تَسرُّعها واندفاعها وهرولتها إلى الموت. لكنّ ما هو غائبٌ في هذا الخِطاب: هو أنّ الضحيَّة ليسَت مسؤولةً عن مأزقِها الوجوديّ كـ "ضحيّة"، ليس علَيها أن تجلسَ بصمتٍ ورويَّة لتُروِّي في أمرِ حِصارها وتجدَ الحُلول كي تُقدِّمها إلى الجَلادِ كي يَصفَح عنها.

الضحيَّة ليسَت مسؤولةً عن مأزقِها الوجوديّ كـ "ضحيّة"، ليس علَيها أن تجلسَ بصمتٍ ورويَّة لتُروِّي في أمرِ حِصارها وتجدَ الحُلول كي تُقدِّمها إلى الجَلادِ كي يَصفَح عنها

إنّ الجَلادَ من يجبُ علَيه أن يجدَ حلاً، وعلى المُتفرِّجينَ أن يجدوا حَلاً، لا تلكَ الجزيرة المعزولة النائيَة التي تُلاطمُ إمبراطوريّة. يُشبهُ هذا الطّلب من غزّة؛ أن تجدَ لنفسها حلاً بكلّ بساطة، الممارسة الأكاديميّة اليوميّة التي يُمارسها بعض الفلسطينيين بشكلٍ دائمٍ، والتي تتلخّص في محاولة بحثيّة جادّة لدى الكثيرين لإيجاد حلّ للمسألة الفلسطينيّة؛ حلّ الدولتين، حلّ الدولة الواحدة، تأصيل المُستعمِر..إلخ. وفي هذا من العبثِ والسُّخرية ما لا يُحتمل، إنّ الضحيّة توقّفت عن المقاومة، وهي مشغولة بإيجاد حلٍ لمأزقِ المُستعمِر، وكأنّها هي المسؤولة عن هذا المأزقِ وليس هو، وكأنّ وظيفة الضحيّة في هذا العصر أمرين اثنين: الأوّل، أن تقبل بصمتٍ قتلها وتُسامح على ذلك، الثاني، أن تجدَ حلّاً للجلّادِ وتعفو عنه.

اقرأ/ي أيضًا: "صورة لشهيد مجهول الهوية"

إنّه المنطقُ نفسه في التعامل مع غزة عندما نأتي على خطابات مثقّفي السُّلطة والسُّلطة الفلسطينيّة والعرب، فهؤلاء، الذين أدمَنوا الغُفران والصَّفح لـ إسرائيل وينشغلون طوال الوقتِ بإيجادِ التبريرات والحُلول للمسألة الصهيونيّة في فلسطين، يُطالبون غزّة، ببساطة، أن تُسلِّم سِلاحها، أن تخضَعَ لمنطقِهم، أن تتعرَّى تمامًا، وأن تتقبَّل عدم صَفحِ المُستعمِر وما سيعقبُ هذا التَّسليم من تنكيلٍ وسجن ونفيٍ، ومن ثمّ أن تنشغل كبقيَّتنا على الجانبِ الغَربيّ من النهر في إيجاد مخرجٍ لأزمَتها!

لكنّ هنالك ما لا يقبلُ التَّكفير والصَّفح، هنالكُ خراب ودمار هائلين، في الجسَد، في الذاكرة وفي الرُّوح. هنالكَ قتلٌ وتشريدٌ، تجذَّرَ في الذاكرة بحيثُ لا يقبل الصفح أو التكفير. وهنالكَ ما لا يقبلُ النِّسيان، وهنالك ما لا يقبلُ العفو. غزّة جزيرة نائية معزولة، وهي تصارع العالم، وتصارعُ أزمَة وجود الإنسان الأدنى بحسبِ التّصنيف الأوروبيّ الاستعماريّ. هِي شهادة دامغة على انعدامِ العدل، وهِي شهادة دامغة على حتميّة الخلل في الحضارة البيضاء، كما هي على فسادِ النِّظام العربيّ وعبوديّته للسيِّد الأبيَض الذي احتفلَ بدماء غزّة في حفلٍ مهيبٍ في القُدس وهو يعلِّقُ اللحم الفلسطينيّ ويلعَقَه بمباركةٍ من إله العهدِ القَديم.

ولهذا كلّه، فغزّة وإن أرادت أن تجدَ حلّاً، لن يكون إلّا انتحارًا جماعيًا في وجه العالم، فلا أحدَ سيقبلُ منها حلولاً، وستبقى تُلاطم وترتطم بالحقيقة، وتخدشُ وجه العدو طالما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وسيبقى موت الضحيّة غائمًا، غامضًا، لا شيء يعقبهُ ولا شيء يتبعه.


اقرأ/ي أيضًا:

صور | أعلام فوق السياج الفاصل.. صناع الحدث يتحدثون

مُسنون على الحدود.. دليل الثوار لطريق العودة

ليالي الساهرين على عتبة البلاد.. صور وفيديو