17-أغسطس-2017

مع ساعات المساء، وبعد رحلة "بوسطة" متعبة امتدّت أكثر من ثماني ساعات، وصلت حافلتنا الكئيبة إلى معبار الرملة (محطتنا الأخيرة قبل عودتنا لسجن عوفر)، اقتادني السجّان أو "السوهير" بالعبرية، برفقة أسيرين آخرين إلى إحدى الغرف في الطابق الثاني، عندها استوقفت السجّان وطلبت منه أن يضعنا في غرفة لا تضم مدخنين، وبالفعل استجاب لطلبنا ثم فتح باب الغرفة وأدخلنا بعد أن أعطى كل واحد منّا فرشة بالية نتنة الرائحة.

سلّمت على المتواجدين، كانوا ثلاثة، بدا بين يدي أحدهم كتاب "فتوحات بلاد الشام"، في حين كان الثاني طويل الشعر يعلو رأسه قبعة سوداء ويحمل في يده مسبحة طويلة، وبعد نقاش قصير معهم عرفت أنّهم من أتباع "داعش".

توجهت إلى حمام الغرفة على عجل وأخذت حمّامًا دافئًا ردّ إليّ روحي، وأزال عن جسدي ما علق به من تعب وعرق، ثم صلينا الظهر والعصر جمع تأخير، وأكلنا ما توفر من طعام بسيط، وبعد حوالي نصف ساعة أذّن أحدهم لصلاة المغرب، في حين تقدّم الثاني للإمامة مُسرعًا وكأنّه في سباق، وأمّ بنا المغرب والعشاء جمع تقديم، ثم جلسنا جلسة تعارفية (تلك العادة المتبعة داخل السجون). بدأ أولهم: "أخوكم في الله أبو جميل من الناصرة"، والثاني: "أخوكم أبو البراء من سخنين"، والثالث "أبو الخطاب من سخنين" أيضًا، الأوّل كان في بداية الأربعينات من عمره، طويل ويرتدي نظارة سميكة، وعيناه غائرتان في وجهه، والثاني كان يصغره بسبع سنوات سمين ومربوع، أمّا الثالث فقد كان في منتصف العشرينات، لسانه به (قرطة) بسيطة بحرف الراء.

اقرأ/ي أيضًا: قتيلان وإصابات في رفح.. ماذا حدث؟

قبل جلسة التعارف كنت محتارًا ومترددًا بين الدخول معهم في نقاش أتعرف من خلاله على أفكارهم، وبين النوم باكرًا، وأن لا أجهد نفسي وعقلي في نقاش كنت أعرف سلفًا أن لا فائدة ترجى منه، خاصة وأنّ الإرهاق تمكّن من جسدي كله وسيطر عليه، غير أنّي في النهاية اخترت الأولى على الثانية، وانتصرت غريزة الصحفي الباحث عن الإثارة، على شخصية الأسير المتعب الذي ينشد الراحة وهداة البال.

بدأت النقاش معهم بسؤال سريع: هل تصلون خلف إمام من حماس؟ نظر بعضهم إلى بعض، ثم أجاب كبيرهم أبو جميل: "قبل أن نصلي خلف أي إمام نخالطه عن قرب ونتعرف على أفكاره ومبادئه، ثم بعد ذلك نحدد موقفنا منه". كان جوابه دبلوماسيًا على غير عادة "الدواعش". ثم عاجلتهم بسؤال آخر: لماذا تكفِّرون غالبية الناس؟ أجاب: التكفير منهج رباني أمرنا به الله، ولا نخجل من تسمية الأمور بمسميّاتها، ألم يقل: "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون"، وقال في سورة الكهف: "أكفرت بالذي خلقك من تراب"، أجبته: الآية الأولى كانت خاصة بكفار قريش، والثانية أنكر صاحب الجنتين البعث والحساب بعد الممات، ولذلك وصفه صاحبه بالكافر، وهؤلاء لا خلاف على تكفيرهم، لكن المشكلة أنّكم تكفرون كثيرًا من المسلمين، فالفتحاوي كافر في نظركم لأنه يوالي الاحتلال وينسّق معه -الغريب في الأمر أن أغلب الدواعش يعيشون في السجون تحت مظلة فتح-، واليساري كافر لأنه يتبنى أفكارًا شيوعية وماركسية إلحادية، والجهاد الإسلامي كذلك لأنّهم يوالون الشيعة، وحتى حماس تعتبرونها كافرة لأنها قبلت بالدولة الديمقراطية، فمن بقي من الشعب مسلمًا؟! قاطعني أحدهم قائلًا "حماس في غزة لا تطبق شرع الله وهذا أساس مشكلتنا معها، ولو أنّها تطبق 10% فقط من الشريعة الإسلامية لكنّا من أتباعها ومناصريها"، قلت:" أنتم لا تنظرون إلى الإسلام إلّا من منظار تطبيق الحدود والرجم وقطع الأيدي وجلد الظهور، مع أن نسبة ذلك في مجمله قليل محدود في النظام الإسلامي الشامل المتكامل، هذا أولًا، ثانيًا حماس تتعرض في غزة لحصار كوني شامل لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث، هذا الحصار نجم عنه ارتفاع في معدلات البطالة والفقر إلى نسبة فاقت الـ 60%، فهل يعقل إقامة حد السرقة على مجتمع أكثر من نصفه يعيشون تحت خط الفقر؟ ألم يوقف الخليفة عمر بن الخطاب حدّ السرقة في عام المجاعة؟ وكذلك فعل مع سهم "المؤلفة قلوبهم" من مصارف الزكاة لحكمة هو قدّرها؟ وأكملت: "حماس تعيش في ظرف استثنائيّ صعب، وهي على مدار تسع سنوات خاضت ثلاثة حروب، وقدّمت خيرة أبنائها وقادتها، أنتم تتحدثون عن حماس وكأنّها في وضع مثالي يرقى لمستوى الدول المستقرة".

قاطعني أحدهم قائلًا: "حماس من بدأت الحرب علينا حين قتلت الشيخ عبد اللطيف موسى في المسجد، قلت: "دعك من هذا الموضوع فأنت لا تعرف تفاصيله كاملة، الشيخ رفض جميع الوساطات التي تدخلت لتطويق المشكلة وأطلق النار على الوفد الذي جاء ليفاوضه وقتل أحدهم، سألتهم: لماذا لم تطلق هذه الجماعات التي تدّعي أنّها سلفية جهادية الصواريخ صوب إسرائيل خلال الحروب الثلاثة وتفعل ذلك خلال فترات الهدوء؟ بهت الرجل، ولم ينبس ببنت شفة. قالوا: حماس ترفع شعار المقاومة، وأشار بإصبعيه إلى علامة بين قوسين مع ضحكة صفرواية، قالها مشككًا، ولا تعلنها صريحة أنّها تتبنى خيار الجهاد، وأكمل معللًا: هي تفعل ذلك خوفًا من الانتقادات الدولية، أجبتهم: هل المشكلة بالنسبة لكم الاسم أم المضمون والممارسة؟ قالوا: المسمى ضروري جدًا، قلت: هل تعلمون قصة النصارى الذين أتوا للخليفة عمر بن الخطاب وطلبوا منه دفع ضريبة مالية بدل الجزية لأن هذه الكلمة ثقيلة عليهم وتتعارض مع كرامتهم، عندها وافق الفاروق على طلبهم لأنّه اعتقد أن المحصّلة واحدة وإن اختلف الاسم. طرحت عليهم سؤالًا: هل تعلمون لماذا رفض رسول الله في المدينة قتل المنافقين؟ قالوا: حتى لا يشاع بين الناس أن رسول الله يقتل أصحابه، سألتهم: ولماذا رفض رسول الله هدم الكعبة وإعادة بنائها من جديد على أساسات سيدنا إبراهيم؟ أجابوا: خوفًا من أن تقول العرب أنّ محمدًا هدم الكعبة، قلت لهم: أليست هذه الأفعال وإن كانت عكس رغبته عليه السلام، تدلل على أن رسول الله كان يهتم بالمواقف المحلية والإقليمية؟ سألتهم: هل تؤمنون بمبدأ التدرّج في تطبيق الأحكام؟ قالوا: لا، فالإسلام يجب أن يطبق جملة واحدة وإلا سيبدو مشوّهًا، قلت: عجيب أمركم تنكرون التدرّج مع أنه منهج قرآني، استخدمه الله تعالى عند تحريم الخرم، وقبل هذا هو منهج عقلي ومنطقي. سارع أحدهم للتدخل محاولا استدراك الأمر بالانتقال لموضوع آخر قائلًا: "كل من لا يصلي فهو كافر، بدليل حديث رسول الله: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، قلت له: يا صاحبي هذا الأمر يخالف مواقف أهل العلم والفقهاء الذين فرّقوا بين من ترك الصلاة جحودًا، وبين من تركها كسلًا وتثاقلًا مع قناعته بأنّها فريضة من الله، وحتى الصنف الأول يجب أن يناقش وتوضح له تبعات موقفه قبل إقامة الحدّ عليه... أنكروا معرفتهم بهذا الحكم وأصروا على أنّ تارك الصلاة كافر دون تمييز. قالوا: كل من لم يحكم بما أنزل فهو كافر، وحماس في غزة لا تطبق شرع الله، بدليل قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الكافرون. أجبتهم: عدم الحكم بما أنزل الله ورد أيضًا بصيغتين اثنتين غير الآية التي ذكرتها، فقال ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون، وفي الثانية قال: الظالمون، والعلماء قالوا إن هذه التفرقة كحكم تارك الصلاة، أي علينا التميز بين من يعطل الحكم بما أنزل الله جحودًا ورفضًا لمبدأ أنّ الله يشرع للبشر، وبين من لم يحكم بما أنزل الله لأسباب أخرى مع قناعته الداخلية بأنّ الله هو المشرع الأول والأخير، ولذلك كان التمييز القرآني بين "الكافرون، الفاسقون، الظالمون".

اقرأ/ي أيضًا: إنه كافر.. اقتلوه

بعد ذلك، انتقل كبيرهم أبو جميل لموضوع آخر، وشن هجومًا على المرابطات اللواتي يتصدين للمستوطنين الذين يقتحمون المسجد الأقصى، وقال: ليس لفعلهنّ هذا أي أثر وهو يخدش كرامة الأمة.. الأفضل أن يجلسن في بيوتهن بدل سحلهن في الشوارع، وأن يعملن على إقامة الدولة الإسلامية، وزاد أبو جميل من شعره بيتًا، وقال: "لا أرى أي مشكلة في هدم المسجد الأقصى، لأنّ المكان مقدّس بمكانه وليس بجدرانه". أجبته: هؤلاء المرابطات اللواتي تقلل من فعلهن وتستهزئ بهن قدّمن أقصى ما لديهن لحماية المسجد، وهذا يتماشى مع قوله: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها"، ومع قوله: "ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفار إلا كتب لهم به عمل صالح"، وهذا التصدي يغيظ اليهود بدليل عمليات الإبعاد التي تطال العشرات منهن كل أسبوع. سألته: ما هو الحل برأيك؟ أجاب: الحل بسيط وسهل وهو أن يهاجر جميع القادرين على الجهاد من فلسطين وبقية الدول ويلحقوا بركب الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، فهي من ستأتي لتحرير فلسطين. قلت في نفسي: "هذه والله أحد أهم الأسباب التي من أجلها أوجد الغرب داعش وأخواتها، لصرف الناس عن القضية الأولى، وزجهم بمعارك جانبية للخلاص منهم". سألته: ألا ترى أن ما تدعو إليه من خروج الشبان من فلسطين وعدم التصدي للمستوطنين في الأقصى يتقاطع مع مصلحة دولة الاحتلال ورغبته؟ أجاب: "الدولة الإسلامية" ستأتي لتحرير فلسطين بعد أن تُوحّد الأمة، قلت: ولكنّي لا أرى أن فلسطين تحتل أي مكانة على أجندة دولتكم، لا في الإطار النظري ولا العملي، وهي قاب قوسين أو أدنى من دولتكم في هضبة الجولان". سكت الرجل وتظاهر بالانشغال وقال لصاحبه: أين وضعت البشكير؟! عاجلته بسؤال آخر رغبة مني بإخراجه من ورطته، هل ما يقال عن سبيكم للنساء في العراق صحيح؟ أم مجرد افتراءات إعلامية؟ قال في إجابة لم أكن أتوقعها: "هذا صحيح.. الدولة مارست سبي نساء الطائفة الازيدية في المناطق المسيحية في العراق.. لماذا الخجل أو النفي، فهو أمر رباني؟! قلت: كيف تتم العملية؟ أجاب: "عناصر الدولة وقبل أن يقتحموا أي منطقة مسيحية يعرضوا على أهلها واحدة من اثنتين، إما الإسلام أو دفع الجزية، وفي حال رفضوا كان القتال هو خيارنا الثالث، في بعض المناطق وافق أهلها على أحد الخيارين وفي مناطق أخرى رفضوا فقاتلناهم وسبينا نساءهم وأطفالهم". سألته: "ماذا تفعلون بهؤلاء؟ قال: الأطفال يوضعون في مدارس خاصة ونعلمهم الإسلام ونربيهم عليه، أما النساء فيوزعون على المقاتلين ويعاملون معاملة "وما ملكت أيمانكم"، قلت: أي يعاشرن كالأزواج؟ قال: نعم! قلت في نفسي: الآن عرفت أحد الأسباب التي تدفع الشبان للالتحاق بداعش، المال والجنس.

في هذه الأثناء، سألني أحدهم ماذا تشرب؟ شاي.. نسكافيه.. بابونج؟ فاخترت الأخيرة، بعدها سألتهم: عند من تعيشون في السجون؟ قالوا: عند فتح، قلت: ولماذا لا تعيشون عند حماس؟ قالوا: لا يتقبلون أفكارنا، قلت: ولماذا لا تتجمعون في قسم خاص بكم خاصة وأن عددكم جاوز الـ80 كما تقولون؟ أجابوا: إدارة السجن ترفض ذلك، ونحن بصراحة نفضّل أن "نبقى موزعين بين الأسرى حتى نمارس دورنا الدعوي والفكري".

اقرأ/ي أيضًا: داعش.. محاولة أخرى في اغتصاب فلسطين

بعد هذا النقاش الطويل الذي نقلت بعضه، وقبل أن أخلد للنوم والراحة خاصة بعد أن تثاقلت عيناي فلم أعد أرى غير الفرشة والوسادة، سجّلت ثلاث ملاحظات في دفتر يومياتي كانت الأولى أنّ الرابط المشترك بين هؤلاء هو انتقالهم من النقيض إلى النقيض، من عدم الالتزام الفكري والأخلاقي إلى التدين المتزمت المتشدد، فأبو جميل كان - وكما حدثني- محاميًا عمل في المحاكم الإسرائيلية أكثر من 10 سنوات، كان علمانيًا فتحاويّ الفكر والانتماء، ثم قرر في لحظة ما لم يحددها، إجراء مراجعات فكرية وتبنى فكر داعش. أما الآخر "أبو البراء" فكان من عائلة غير متدينة ومنفتحة إلى أبعد الحدود، فوالده كان من أقطاب اليسار في الداخل وأحد منظّريه، وبعد نجاحه في الثانوية العامة ألحّ عليه بالسفر إلى ايطاليا لدراسة الهندسة الميكانيكية، وهناك عاش في بداية المرحلة الدراسية، متنقلًا من نادٍ ليليّ إلى آخر، ومن فتاة ليل إلى أخرى، كما قال، إلى أن ساق له الله أحد شباب "الدولة" فأخذ بيده.

أمّا الملاحظة الثانية فإن الرابط المشترك بين هؤلاء الثلاثة هو جهلهم في الدين واستشهادهم ببعض الآيات والأحاديث في غير موضعها ودون معرفة للهدف الحقيقي المقصود منها، حتى إذا ناقشت أحدهم وأعطيته الحجة والأدلة الصحيحة من القرآن والسنة وقف عاجزًا مرتبكًا كالطالب الحافظ للمسألة الرياضية دون فهم قانونها. وهم لا يحفظون من القرآن والسنة سوا نصوص الذبح وقتال الناس بطريقة انتقائية مبتورة ومشوّهة ويُحمّلون هذه النصوص ما لا تحتمله.

اقرأ/ي أيضًا: انفوجرافيك: كيف يتواصل الجهاديون على الإنترنت؟

أما الملاحظة الثالثة فهي أن هؤلاء الثلاثة كانوا وخلال نقاشهم القصير معي مختلفين فيما بينهم، ولكل واحد منهم فهمه الخاص للآية والحادثة الواحدة، فإذا كان هؤلاء الثلاثة قد عاشوا مع بعضهم فترة في السجن وقبله ولم يصلوا لفكر واحد مشترك، فكيف سيكون حال داعش التي تضم الآف العناصر والأتباع من دول شتى ويحملون أفكارًا وإن كانت متشابهة في ظاهرها غير أن الاختلاف والفرقة في باطنها، وهو ما ينبئ بمكانية اقتتالهم وتنازعهم وتمزقهم لفرق وشيع شتى.

بصراحة كنت قبل هذا اللقاء التمس قليلًا من حسن الظن في بعض داعش، ولكن بعد هذا اللقاء زادت القناعة الداخلية لديّ بأن هذا التنظيم ما هو إلا أداة في يد الغرب ودمية شريرة ونبتة خبيثة هو صنعها وزرعها لتحقيق عشرات الأهداف الكارثية التي قد يبدو لنا بعضها وقد لا يظهر لنا أغلبها.

أما عالميًا فالدواعش يستهدفون كل ما هو إنساني مشترك، فالإنسان يقتلونه شر قتلة ذبحًا ونحرًا، جلدًا ورجمًا، والمرأة يسبّونها ويلبسونها خيمة سوداء متنقلة، والموسيقى وأدواتها يكسرونها، أما الآثار والتماثيل يدمرونها ويحطمونها.


اقرأ/ي أيضًا:

المؤشر العربي: كيف ينظر العرب إلى داعش؟

الدليل المختصر لفهم إستراتيجية داعش الإعلامية

ليس داعش وحده داعش