22-يونيو-2019

أذكر تلك الفترة جيدًا.

وأذكر أنني كنت أهرب إلى حمّام الشركة التي أعمل فيها، كلَّ ساعة، وأفتح النافذة الصغيرة وأطل برأسي وأبكي بكاءً مرًّا.

كان الزملاء يسألونني: "ليش عيونك حمر؟"،فأقول: "لم أنم الليلة جيدًا".

عندما عجز الأطباء عن تشخيص حالة والدي أيامها، و"زار" كل أطباء المنطقة ونام في كل مستشفياتها، دون أن يعرف أحدٌ سبب علته؛ طلب طبيبٌ عابرٌ أثار فضولَه ترددُنا الدائم على المستشفى، أن نجري له صورة طبقية.

 رأينا جبلنا ينهار، وبتنا نداري دموعنا على العلن، لينزوي كل منّا بحزنه ويبكي

أجرينا الصورة، ومررناها للطبيب، وقال: "سرطان رئة"، وانكسر ظهرنا.

يقال: "يظل الرجل طفلاً حتى تموت أمه، فإذا ماتت، شاخ فجأة". أما نحن، فقد رأينا جبلنا ينهار، وبتنا نداري دموعنا على العلن، لينزوي كل منّا بحزنه ويبكي.

كلّفني أهلي بأن أخبره، وكانت هذه أصعب مهمة أقوم بها في حياتي.

تحلّقنا حوله بهدوء. تقمصت صوت الأطباء وقلت بحزم: "يقول الطبيب إنك مصاب بسرطان الرئة"، ولبست عمامة شيخ وأكملت بوقار: "لكن الأمل بالله كبير، والمؤمن مبتلى، وتفاقيد الله رحمة".

صمتٌ ثقيل، ثم انفجر البيت كله بالبكاء.

في هذه اللحظات، لا شيء يخفف عنك مرارة الحقيقة، إلا التعلق بالأمل والدعاء بمعجزة ما تجعل ما يحدث كابوسًا تستيقظ منه فجأة لترى وجه أبيك ساخرًا مثلاً من طريقتك في تربية أبنائك.

إلا أن الكوابيس أقرب إلى التحقق من الأحلام، فالدنيا محمولة على جناح الألم المؤجل، والفرح لحظة عابرة، والموت هو الحقيقة الأكثر وضوحًا وجرأة، وهو متوثبٌ دومًا ليهدم كل شيء.

أباؤنا رجال عاديون، لكننا نراهم أساطير تمشي بيننا، يعودون إلى البيوت محمّلين بكل رغباتنا، وبنصائح لا تتوقف رغم أننا آباء مثلهم. نهزّ رؤوسنا ونحن نسمعها، لكننا نتذكرها متأخرًا.

آباؤنا رجال عاديون، لكننا نراهم أساطير تمشي بيننا

أيامها، قرأت عن سرطان الرئة كثيرًا، لم أترك حرفًا كتبه مختصّ إلا ووعيته، ولم أترك "تجربة نجاة" إلا وتمنيتها. كنت أحمل "معرفتي" إلى الطبيب، وأناقشه في التفاصيل، فيهز رأسه، ويكتب الوصفة ذاتها ببرود: "جرعات من العلاج الكيماوي".

كنت أدرك أننا نناور الوقت فقط، ونتحايل على موتٍ يكمن لنا كل يوم، وأن النجاة كانت وعدًا بمنازلةٍ أخرى، ستنتهي قريبًا لصالحه.

كنا متواطئين في البيت على تجاهل الحديث في الأمر، وكنا نتجنب النظر في عيون بعضنا، خشية انهيارٍ جماعي مفاجئ.

ارتدّت لأبي صحته مؤقتًا، وتوافقنا على أنه هزم المرض، لكننا كنا نعلم أن "خداع" الأطباء بالقضاء على الكتل السرطانية في رئتين قال عنها الطبيب الذي شخّص الصورة يومها: "من صاحب الصورة؟ هو -لا شك- ميت، فالخلايا أتت على كامل الرئتين"؛ هو خداعٌ تعلّمه الأطباء عند التعامل مع الحالات الميئوس منها، لتأجيل الحزن فقط.

تأجل الحزن أشهرًا، ثم هجم بكل قوته، لينهار أبي مرة واحدة، ولننهار جميعًا.

صرنا نرجو الأطباء أن يرفعوا جرعة المسكنات. "نريد أن يموت والدنا بهدوء، وبلا ألم".

بعد أيام، مات أبي بسلام.

وموت الآباء هو انهيار لسدّ تشعر بالأمان في وجوده أمام نوائب الدهر

وموت الآباء هو انهيار لسدّ تشعر بالأمان في وجوده أمام نوائب الدهر. الآباء يملكون الأجوبة عن كل الأسئلة. لديهم حلول لكل المشاكل التي تواجه أبناءهم.

كان أبي رجلاً عاديًّا، عاديًّا جدًّا، لكنه كان أسطورتنا. الآباء أبطال أبنائهم الذين لا يهزمهم أحد.

تجنبتُ الكتابة عنه، خوفًا من دمع أمي المفاجئ، وحزن إخوتي.

لم يغب أبي عن بالي يومًا. أراه في عيون أبنائي، وفي كل كلمة "يابا" أسمعها في البيت أو الشارع.

كلما عضّتنا الدنيا بنابها، طلبنا حنان أمهاتنا ليُخرِّجنَ علينا بما يحفظن من الأدعية والأوراد، وطلبنا أيضًا مشورة آبائنا. هذا أمرٌ لا يمكن أن تعتاد على غيابه، سيظل افتقاده حارقًا.

موت الأحبة هو الحقيقة الأكثر ألمًا، والموت عمومًا هو العدالة المطلقة.

كانت الشمس في عزّ عطائها، ومات أبي في النهار، لكنّ الليل حلّ فجأة، وهجم بكل عتمته ورعبه.


اقرأ/ي أيضًا: 

أعود لأكتب

ملعقة في حقيبة مدرسية

انقسام القضاء يسلم آباءً وأمهات حضانة أطفالهم