24-أغسطس-2015

في اسبارطة العصر الحديث، يرضع الأطفال بارودًا (Getty)

في كتابه "ما بعد إسرائيل - نحو تحوّل ثقافي"، يَغوصُ الكاتب مارسيلو سفيرسكي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولونغونغ- أستراليا، في أدق تفاصيل عَسكرة المجتمع الإسرائيلي، وتحديدًا تلك التي لا تنطوي على مُباشرة فجّة في الطرح، وإنما تجعلُ من العسكرة عُرفًا اجتماعيًا أساسيًا في إدماج المجتمع الإسرائيلي الكوزموبوليتاني.

 أسّس موشيه ديان العاطفة القومية نحو التجنيد المقدّس في إسرائيل

الكتاب الذي نقله إلى العربية المترجم الأردني سمير عزت نصار، ويصدر قريبًا عن"منشورات المتوسط"، يسرد كيف يصبحُ تجنيد الأطفال واجبًا أعلى على الصعيدين الاجتماعي والوطني قبل الديني، وأساسًا يُحدِّدُ ما إذا كانت عائلة الطفل وفية لمُجتمعِها أم خائنة له، فالعاطفة القومية نحو "التجنيد المقدّس" التي أسّس لها موشيه ديان من خلال جملة "كُتب علينا أن نُقاتِل"، والتي لم يتوقّف أي رئيس وزراء عن طرحها كنهج وطريقة حياة شعبية، هي من تجعلُ أمًّا تُبلّغ الشرطة العسكرية عن ابنها الفارّ من الخدمة الإلزامية، وتدفعُ عائلة شاليط للاحتفال بانضمام ابنتهم هداس إلى قوات الاحتلال الإسرائيلية في عام 2009، أي قبل سنتين من خروج ابنهم جلعاد من الأسر في صفقة تبادل "وفاء الأحرار".

وفي الحديث عن التمييز العرقي، يُسلّطُ سفيرسكي الضوء على مُمارسات قانونية واجتماعية وعسكرية في تطبيق فصل طبقي في المجتمع اليهودي نفسه نحو مُجتمعات غير مُتساوية في الحقوق "أشكناز وسفارديم ومزارحيم". وتتوضّح أخطار هذا التمييز على الدولة، إذ أن الأخيرة لا تنصُّ على هذا التمييز على نحوٍ واضح، وإنما يبقى في إطار الديمغرافية والعلاقات الاجتماعية، كيلا يؤثّر سلبًا على الصورة العامة للدولة.

غلاف الطبعة الإنجليزية

يُفصّل الكتابُ عمليات التجهيل الممنهجة لِما كانت عليه الحال فوق أرض فلسطين ما قبل 1948. فيتطرّق إلى المناهج الدراسية "الإسرائيلية" الخالية تمامًا من أي إشارة إلى القرى الفلسطينية التي طُهرت عرقيًا ومُهجّريها. فضلًا عن مسح أي إشارات أو لافتات، تعريفية أو سياحية، إلى مناطق ما قبل 1948. 

يخوض سفيرسكي في الأشكال الاجتماعية المعيارية للهوية الصهيونية، حيثُ يُحدّدها بـ"المُتنزِّه"، وتشعرُ خلال قراءة هذا الفصل أنك تراجع الوصفة المطلوبة لتحويل أدبُ الرحلات إلى احتلال، و"المُدرّس"، الذي سيبدو في المجتمع "الإسرائيلي" أنه أقرب إلى مُبشِّر عسكري، و"الوالد"، على الطريقة الإبراهيمية المتفانية في التضحية للصالح العام، و"الناخب"، الذي يُمارس ديمقراطيته كاملة من أجل حماية المنظومة الشمولية العنصرية لصالح "ديمقراطيته". كما يشرحُ كيف تعمل الدولة على صقل كلِّ شخصية من الشخصيات السابقة، وتأطيرها ضمن القالب الذي يخدمُ استمرار الصهيونية.

أما الفصل الأخير في الكتاب، والذي عنونه سفيرسكي بـ"ألف انتهاك"، فإنه ينطوي على طبيعة الممارسات التي تنتهجها الدولة للحفاظ على تكوينات شخصياتها، دون أن ينعكس ذلك سلبًا على الهالة الديمقراطية التي اختلقتها حول نفسها وتروج لها دوليًا، ومن ذلك الرضوخُ إلى المطالبات الشعبية العربية داخل الخط الأخضر من أجل إلغاء مشروع برافر- بيغن 2013 الذي لو رأى الضوء لكان بمثابة نكبة فلسطينية جديدة، حيثُ كان من المقرّر أن تستولي فيه إسرائيل على أكثر من 800 ألف دونم من أراضي النقب، وتُهجّر نحو 40 ألفاً من بدو النقب، وتُدمّر 38 قرية غير مُعترف بها إسرائيليًا.

الكتاب غني للغاية بالمراجع الأكاديمية والبحثية، ومن الواضح أن سفيرسكي بذل جهودًا جبّارة في مُتابعة إصدارات الأكاديميين المتخصصين بشأن القضية الفلسطينية والصراع العربي -الإسرائيلي حول العالم خلال الأعوام السبعين الأخيرة. علنا أمام ظاهرة "مؤرخون جدد" جديدة في أوساط الأكاديميا الغربية!