23-سبتمبر-2018

الأسيرة السابقة علا مرشود لحظة التقائها بأهلها بعد الإفراج عنها - تصوير شذا حنايشة

وأخيرًا، ضاحكةً ضحكة تمسح عن القلوب ما علاها من ألمٍ ووهن لسبعة شهورٍ عجاف، خرجت علا مرشود من السجن. في خطواتها ما بين البوسطة و الحاجز، تحمل ما تبقى من ذكرياتها في السجن، و تعود لأهلها. لكن هناك الكثير وراء هذه الصورة.

ليلة السجن الأخيرة، واحدةٌ من أصعب الليالي وأثقلها على نفس أي إنسان يخوض هذه التجربة، نيرانٌ مضرمة في القلب تتلقفه. اللهفة للحرية والشوق للأهل والحياة، والحرقة على رفاق السجن الذين سيكونون ذكرى حاضرةً في كل التفاصيل وكل اللحظات. لا يمكن أن تأخذهم معك من ماضيك إلى حاضرك إلا أن يأمر السجان، ولا يمكن لك أن تظل معهم في ماضيك، إنها ندبةٌ ملازمة، نزفٌ لا يتوقف، يُنْثَر عليه ملحُ القهر والألم كلما خلا الإنسان لنفسه برهةً من الزمن.

في الليالي الأخيرة، تتحلق الأسيرات حول الأسيرة المنتظر الإفراج عنها، يحملنها الوصايا والرسائل والكثير من الأحاديث

في الليالي الأخيرة، تتحلق الأسيرات حول الأسيرة المنتظر الإفراج عنها، يُحمّلنها الوصايا والرسائل والكثير من الأحاديث التي يردن لها أن تصل أهلهن و أصحابهن، ويُشبعن قلوبهن من الصاحبة المفارقة لهن، في تناقض شعوري في غاية التعقيد، الجميع يريد لها أن تخرج، والجميع يريد أن يكون مكانها، وكل واحدةٍ منهن في تلك اللحظة تفكر: متى يأتي دوري؟ منهن من يأتي دورها بعد بضعة أيام، ومنهن بعد شهور، و كثيرات سينتظرن أعوامًا طوالاً لتكون الواحدة منهن هي صاحبة الليلة الأخيرة في السجن.

اقرأ/ي أيضًا: "زهرات" تحكي كيف تقضي الأسيرات القاصرات أيامهن

ظهرت علا في فيديو الإفراج عنها تحمل كيسا أبيضًا، هذا الكيس قصة كاملة.

تمنع إدارة السجن الأسيرات خلال فترة اعتقالهن من إخراج الهدايا التي تكون محشوة بالقطن من مطرزات وسواها، بدعوى الخشية من أن يكون في داخل هذه الهدايا ما يهدد الأمن بالنسبة للاحتلال، فيحتفظن بكل ذلك لحين موعد الإفراج عنهن، أو الإفراج عن أي أسيرة، فتحمل هذه الهدايا لأهل صاحباتها اللواتي تركتهن وراءها في ظلمات السجون.

الكيس الأبيض الذي كان في يد علا، ربما كان محشوًا بالكثير من الهدايا المحملة بشوقٍ مضمخ بألم البعد و القيد، أعددنها بقلوبهن الممتلئة حبًا وعطشًا للحرية.

يجدر هنا أن أذكر الأسيرة نسرين أبو كميل من قطاع غزَّة، وهي معتقلة منذ سنة 2015، ولم تسمح سلطات الاحتلال لعائلتها بزيارتها منذ تاريخ اعتقالها حتى اليوم. لنسرين خزانة صغيرة في السجن ممتلئة بالهدايا التي أعدتها و تعدها لأسرتها، و لم يصل منها شيء إلا مرَّة واحدةً في صيف 2016، حين تحررت الأسيرة سناء الحافي من غزَّة، حيث حملت بعضًا من الهدايا من نسرين لأسرتها. ظلَّت نسرين - حينها - تمشي مع سناء حتى باب القسم وهي تقول لها موصيةً: "الأولاد يا أم أيمن، الأولاد يا أم أيمن" و تبكي بكاءً تخرُّ له الجبال هدَّا!

ظلَّت الأسيرة نسرين أبو كميل تمشي مع سناء الحافي لحظة الإفراج عنها حتى باب القسم، وهي توصيها: "الأولاد يا أم أيمن، الأولاد يا أم أيمن" و تبكي بكاءً تخرُّ له الجبال هدَّا!

نسرين محكومة بالسجن الفعلي ست سنوات، و ممنوعة تمامًا من الزيارة أو الاتصال بأسرتها، وستظل تعد وتجمع الهدايا لأسرتها حتى يحين موعد الإفراج عنها في 2021.

ماذا يكون قد حوى الكيس أيضًا؟

في آخر الأيام قبل موعد الإفراج، تجمع الأسيرة المنوي الإفراج عنها أرقام هواتف عائلات الأسيرات، وتُدوّنُ ملاحظاتٍ حول كل ما تريد الأسيرات إيصاله لأهاليهن عن كل شيء: أحوال العائلة، أخبار المحاكم ومواعيدها، مواعيد الزيارات و"التدخيلات" وتفاصيلها. و"التدخيلة" مصطلح يُطلق على ما يسمح للأهل إدخاله خلال الزيارة من ملابس و صور و كتب، بشق الأنفس طبعًا، وبشروط لها أول لا آخر له!

اقرأ/ي أيضًا: إسراء جعابيص.. عذابات الأسر والإصابة

في إحدى المرات التي كانت تستعد أسيرة للإفراج عنها، تداولت الأسيرات فيما بينهن دفترًا تكتب كل واحدة عليه رسائل لمن تريد من أهلها وصحبها، اكتمل الدفتر، و خبأته الأسيرة بين أغراضها، و حين خرجت استدعتها مخابرات السجن للتفتيش وأمسكت بالدفتر بين الأغراض. صودر الدفتر لدى الإدارة عدة أيام، قرأوا كل ما فيه ثم أعادوه لممثلة القسم، كان الأمر خيبةً موجعة، لقد كانت تلك الرسائل تعطي شعورًا حقيقيًا بالتواصل مع العالم الخارجي - بالنسبة للأسيرات - أنهن ما زلن على قيد الحياة، و أنهن جزء من هذا العالم، حتى وإن كان السجن يبتلعهن في جوفه أيامًا وليالي طوالاً، محرومات من أبسط حقوق البشر!

عاد الدفتر إلى القسم، لكن كثيرًا من الدفاتر خرجت ووصلت الرسائل، و كثيرٌ ممن وصلت إليهم هذه الرسائل يحتفظون بها ككنز في انتظار أن يعود الأحبة الغائبون، وتصير الورقة المخطوطة باليد وتحكي القلب، ذكرى، بعد أن كانت لسنوات طوال، أثر الحياة الوحيد، تحديدًا للأسيرات الممنوعات من الزيارة بشكل نصف شهري.

يعود بي فيديو علا، إلى ساحة سجن الدامون، إلى كثير من اللحظات الأخيرة التي شهدتها لصاحبات السجن و هن يودعننا، وللحظتي الأخيرة التي ودعتهن فيها.

قبل موعد الإفراج بيوم أو يومين، تستدرج الأسيرات الأسيرة التي تنتظر الإفراج عنها إلى مفاجأة بسيطة، مليئة بالحب، فيقمن بإعداد ما أمكن من الحلوى بإمكانيات السجن المتواضعة، و يجتمعن في غرفة واحدة، يغنين لها فرحًا بأنها ستعود لأهلها، و كثيرًا جدًا ما كان يخنقهن الدمع وهن يحاولن كتمانه في لحظة يُفترض أنها ساعة بهجة.

قبل موعد الإفراج بيوم أو يومين، تستدرج الأسيرات الأسيرة التي تنتظر الإفراج عنها إلى مفاجأة بسيطة، مليئة بالحب

في المرة التي كنت أنا فيها المستدرجة، كانت عيناي تهربان من الالتقاء بأعينهن، و غالبت دمعي كثيرًا وهنَّ يغنين:

"جليلو المهيرة بشراشف حرير، زفيناكِ يا حرية على خيول الأمير

جليلو المهيرة بسلاسل دهب، زفيناك يا حرية على الخيول بحلب

جليلو المهيرة بالشرف و العزة، زفيناك يا حرية بالأنفاق بغزة"

اندمجت في الغناء معهن، لكني بعدها أمضيت ليلتي الأخيرة أنظر إليهن طوال الليل وأبكي. أدقق في كل تفاصيل القسم، أسترجع ذاكرة المكان، وأتخيل لحظة أن يُنادى باسمي لأخرج قبل عدد الساعة العاشرة صباحًا. مرَّ عليَّ شريط الأحداث كاملاً منذ لحظة اعتقالي، وحتى تلك اللحظة التي كنت أجلس فيها على سريري أكتب، و أبكي بكاء حارقًا يمزق نياط القلب، لم أنم سوى ساعة، حتى أشرقت شمس الصباح الأخير.

عادت بي علا إلى كل هذا وأكثر مما لا يتسع المقام لذكره كله، لكني أردت أن أكتب لكم ما وراء ضحكة علا ولهفة عيونها للقاء أهلها وأحبتها، المشهد الذي لن يستطيع الإعلام أن يصوره، ولا أن يعرف عنه شيئًا إلا من رواته، الشهود الحقيقيين عليه.

على الباب، في اللحظة التي تنادي فيها السجانة اسم الأسيرة التي ستتحرر، تقف كل الأسيرات حولها بعد وداع حار و هي تمد يديها للقيد في المرة قبل الأخيرة، و يغنين لها:

"دوسي على الفرش بالقبقاب هيها الحرية على الأبواب

دوسي على الفرش ما يهمك بكرة بتكوني بحضن أمك

دوسي على الفرش بالقميص، ريتنا نباركلك بالعريس

دوسي على الفرش بعباتك، بكرة بتكوني بين خواتك"

تلك اللحظة لحظة ألم إنساني شديد، تمزيق بشع للروابط الإنسانية تشهده تلك اللحظة، أن تخرج تاركًا خلفك أناسًا عشت معهم حياة كاملة، لا تملك من أمرك أو أمرهم شيئًا، سوى أن قهرًا شديدًا يتملك قلبك و روحك لا مفر منه إلا رحمة الله.  في تلك اللحظة، تعاليًا على الألم، تغني الأسيرات من باب الطرفة و تلطيف الأجواء:

"تفضل من غير مطرود و إياك تتجنن وتعود

دا الداخل عندنا مفقود والخارج من عندنا مولود

سلملي ع الباي باي"

و تخرج من القسم، إلى رحلة البوسطة الأخيرة، إلى الصورة التي نراها، فيما يظل في قلبها و وعيها صورة كثيفة للغاية، لا يراها أحد!


اقرأ/ي أيضًا:

المحررة عطاف عليان والفدائي الذي قتلها عشقًا

ليلة في حصار جامعة النجاح

رسائل صغيرة كبيرة