15-أكتوبر-2015

رجل فلسطيني في الخليل (Getty)

أجد صعوبة في وصفه بالعجوز، أعني ذلك الرجل الذي ظهر في الخليل متحديًا جنود الاحتلال. أجد صعوبة في تقبل قول المذيعة إنه مسنٌ، أو إنه أحد رجال العشائر، لأن فلسطين اليوم أبعد ما تكون عن العشائرية، وأبعد من أن تكون عن الهرم أو التقدم في السن، أريد أن يقال عنه أنه رجل من الخليل، أو رجل الخليل. أريد شيئًا آخر غير هذا الكلام، وغير تلك المقدمة التي جاءت على لسان مذيعة "الجزيرة".

رجل الخليل ليس استثناءً في الحالة الراهنة، ولا في السابقة، لأنه تمثيلٌ لبطولة العاديين وقوة الحياة

الرجل لم يفعل شيئًا خارج إطاره اليومي والعادي في الصراع مع الاحتلال، وإن كان محظوظًا بوجود الصحفي والكاميرا التي صورت الحدث. هو ليس استثناء في الحالة الراهنة، ولا في السابقة، ولا في القادمات.. لأنه تمثيلٌ لبطولة العاديين وقوة الحياة. 

في الانتفاضة الأولى، جارتنا فعلت ذلك، أخرجت ثلاثة شبان من جيب الحاكم العسكري لنابلس، بعد أن صرخت بوجهه أنه لا يجوز له اعتقالهم. سائق الشاحنة الذي بلا عشيرة، ولا تنظيم سياسي، فعل ذلك أيضًا. كنا ننزل حمولة الجوافة، في مثل هذا الوقت من السنة في 2002، في الانتفاضة الثانية، كانت إسرائيل وقتها تفرض حصارًا مشددًا على نابلس، هربنا نحن الشباب الذين ننزل الحمولة بينما تقدّم سائق الشاحنة وحده، صرخ في وجه الجندي وردد ذات الكلام الذي ردده رجل الخليل، بمزيج من العبرية والعربية مثله. 

الشاب الذي ظهر في الفيديو وحيدًا يمسك المقلاع بيده، يرقص ويدبك، ومستعد لقذف حجره باتجاه الجنود الصهاينة، ظهر كما لو أنه يريد أن يسند روحه بالرقص. رأيته من قبل وعرفته، ظهر كما لو يشبه زميلًا أعرفه في سوق نابلس المركزي، أو ابن حارة ساخر. كان يرقص بثقة أزعر يضع روحه على راحته دون أن يسأل عن سلامته أو يعبأ بالقناص الذي يتربص به، أو بالفتيات اللواتي يواصلن النظر إليه وهن يمددننه  بالحجارة.

كان يشبهه زميلي تماماً، زميلي الذي عمل في تعبئة البطاطا في السوق، غير أن الفارق في الشبه هو المصير، فحين استشهد كان يرقص أمام دبابة قرب مخيم بلاطة، ويلقي بالحجارة. حين كانت دوريات جنود الاحتلال تمر من أمام السوق وهو يعبئ البطاطا في أكياس خضراء، كان يلقي حبات البطاطا التي بيديه باتجاه الدوريات بصمت. لم يفوّت جنازة شهيد واحدة في الانتفاضة الثانية، لم يتوقف عن العمل في عز منع التجوال في نابلس. لا أعرف كيف استشهد بالضبط، كنا في السوق حين جاء الخبر، قالوا إنه كان يرقص فوق الميركافا ويحاول انتزاع شريط الرصاص من فوقها، كان يضحك ويرقص حين استشهد. وربما إذا كان مشهد الشاب الراقص سيقود كل واحد منا إلى ذكرى فلسطيني راقص، سوف نجد في لحظة حقيقة لا تتكرر أن فلسطين ذاتها كانت ترقص رقصة الحرية.

 تمنحنا فلسطين ما نريده من الصور لنركّب صورتها، بعدد ما كان وما سيكون من الوجوه والعيون والابتسامات

عرفت بهاء عليان بروح شخص آخر كان معنا في المدرسة، اسمه محمد حموضة، ترك وصيةً مثل التي تركها بهاء عليان، وكان مثله أيضًا في الطلة والضحكة، الذي اختلف هو زمان الموت فقط. حتى وقع خبر استشهاد بهاء كان له وقع خبر محمد. الطريقة كانت واحدة، واللحظة والأثر أيضًا. ثم إنهم جاءوا من مكان واحد، من أروقة أحلامنا في بيوت صغيرة وفلسطين متعددة وكبيرة.

عندما أقول إنني أعرف بهاء لأني أعرف محمد، إنما أعترف أن هذه الأجساد التي تتجول من حولنا، وتتهيأ للانتقال إلى الفعل الأهم في تأسيس العلاقة بين الجسد والروح، كانت تصنع صورتنا التي أراد الاحتلال وذيوله أن يكسروها.  

ثم إنّ الجموع التي كانت تغني بوجدانٍ عالٍ في القدس، كانت من قبل تغني في أحياء حمص قبل سنوات قليلة، وهي الجموع ذاتها التي أحاطت بالقدس في أطول سور بشريّ للقراءة. الوجوه والأصوات التي تسمعها وتراها، في الشارع أو في مقاطع الفيديو، هي من يصعد بالحلم ليصير حقيقة. 

أن يجعل المنتفضون من الغناء علامةً وشارة للحرية، في فلسطين وسوريا، وكل مكان يتوق أهله إلى حقهم في تقرير مصيرهم، ذلك أمر محسوم. لكنّ أن تأتي القدس وتعيد أغنيات سورية بعينها، فتلك عملية تأكيد على صلات الوصل التي بتنا نغفل عنها في زحام الأحداث والمآسي التي شهدناها؛ أنّ الحرب على الطغاة والغزاة لن تكون إلا حربًا واحدة.

المشاهد التي تنتشر في فلسطين، يومًا تلو يوم، ليست غريبة عني، عشتها من قبل، عايشها الفلسطينون من قبل، ويعرفون أنهم سيعيشونها أيضًا. الفتيات راجمات الحجارة في المظاهرات هن بنات أمهات شاركن في الانتفاضة الأولى. طوردن واعتقلن واستشهدن وأسسن لجمعيات نسوية في فلسطين. وهن لسن الشهيدات فقط، بل الحيّات الباقيات كذلك، مثل الأم التي تصرخ على جندي الاحتلال على حاجز حوّارة، وهي ترفع يدها لتضربه لأنه اعتقل طفلها الذي كان يركض قرب الحاجز أمس. 

المشاركة النسوية في النضال في فلسطين لم تكن وليدة اللحظة، الغريب فقط هو هذا الصوت النشاز المتفاجئ من المشاركة، أو ذلك الذي يدعو إلى عدم مشاركتها، أو الذي يلغي نضال المرأة ومكتسباته ويرجعه إلى بدايات الحركة الإسلامية، وكأن ستين سنة من النضال الفلسطيني غير كافية لتقنع هؤلاء بمشاركة البنت لأخيها في المقاومة.

في انتفاضة اليوم، ثمة ما هو إنساني لا يكف عن الحضور، مشاهد كثيرة تراود العيون والقلوب، ولعل كل واحد منا سوف يجمع الخيارات التي يظن أنها تختزن دلالات كبرى، بعيدة المدى والعمق والمعنى. لا بد من الانتباه إلى أنّ فلسطين تمنحنا ما نريد من الصور التي نشتهي، لنركّب من بين كل هذا صورتها بعدد ما كان وما سيكون من الوجوه والعيون والابتسامات.

اقرأ/ي أيضًا:

المقاطعة والبحث عن جبهة أخلاقية

صحف أوروبا تبكي بندقية الصهيوني