30-سبتمبر-2019

لا طلاب في جامعة بيرزيت هذا الصباح.

وغيابهم اليوم خيرٌ من مجيئهم، إن لم تكن النفوس قد صفت، والأعصاب قد هدأت.

ليست جامعة بيرزيت أفضل مكان في فلسطين، وهي جزء من النسيج الفلسطيني، يصيبها ما يصيبه من اهتراء أحيانًا

ليس الأمر مفرحًا طبعًا، لكنه جزء من تركيبة الجامعة، التي اعتادت على مناوشات كهذه، قد تشتد حدتها، وقد تخفت، لكنها موجودة دومًا.

ليس ما حدث بدعًا. وسيحدث ما كانت بيرزيت بيرزيت.

اقرأ/ي أيضًا: إخلاء جامعة بيرزيت بعد شجار بين الشبيبة والقطب الديمقراطي

ليست جامعة بيرزيت أفضل مكان في فلسطين، وهي جزءٌ من النسيج الفلسطيني، يصيبها ما يصيبه من اهتراءٍ أحيانًا، لكن اتكاءها على إرث مؤسسي وديمقراطي، قادرٌ باستمرار على تصويب البوصلة.

ولعلّ فرادتها هذه مصدر إزعاج لكثيرين، يريدونها ضمن السياق العام، ضمن القطيع، ويزعجهم أنها "نشاز" بمعاييرهم.

ولا فضل لأحد في حال بيرزيت هذه. إنه إرث عمره قرابة مئة عام، منذ أن وقفتها أسرة ناصر التي أسستها مدرسة فكلية فجامعة.

إنه إرثٌ تعمّد بالشهداء والأسرى والجرحى ممن دافعوا عن رأيهم، وقضوا دونه. وقد كانت الجامعة عبر تاريخها، تخرّج الطلبة وتخرّج الشهداء والأسرى، وما زالت.

ولها اليوم طالباتٌ أسيراتٌ وطلابٌ أسرى ومعلمون أيضًا، سواءً في السجون أو في الإقامة الجبرية.

إنها مصنعٌ لا يتوقف عن الإنتاج.

قد تمرض بيرزيت، ككل شيء، لكنها تنهض مرة أخرى.

في أواخر الثمانينيات، أغلق الحاكم العسكري الإسرائيلي الجامعة أكثر من أربع سنوات، لأنها كانت تقضّ مضجع الاحتلال وتؤرقه، فمنها خرج المقاتلون والسياسيون والمفكرون!

وخلال 15 عامًا، شهدت الجامعة 15 إغلاقًا. ورغم ذلك، فقد كانت تتحايل على هذه القرارات، وابتدعت التعليم الشعبي، وحوّلت البيوت والمؤسسات، بل والشوارع، إلى قاعات للدرس، حملت الأفكار ولم تمنعها سلطة من التحليق.

في الجامعة إدارةٌ تتغير باستمرار، من أعلى الهرم إلى أدناه. وفيها نقابة موظفين قوية، تقف للإدارة الندّ للند، وهي منتخبة وتتغير باستمرار. وفيها مجلس طلبة يمارس أعضاؤه قناعاتهم داخل الأسوار، بحريةٍ كاملة، لا تشوبها إلا تدخلات تقفز عن الأسوار أحيانًا، من الاحتلال بشكل رئيسي، ومن امتدادات الكتل الطلابية الفصائلية، حسب قوتها في الشارع وسطوتها.

ومع ذلك، تشخص الأبصار كلها إلى انتخابات مجلس طلبتها، فهي مؤشر سياسي لا تستغني عن قراءته الفصائل، ولا أعمدة الكتاب.

كل هذا لا يمنع الطلبة من الدفاع عن مقولتهم في وجه الجميع.

أنا منحاز بالكامل لقرار تعليق الدوام اليوم للطلبة، بل وسعيد به، فهو خير ألف مرة من نقطة دم واحدة قد تسيل في فورة الأعصاب، وساعتها، لن يتحمل أحد مسؤوليتها إلا الجامعة.

حتى "آباء" الطلبة سياسيًّا، فإنهم سيتنصلون من دماء أبنائهم. وستظل بيرزيت وحدها "مثل السيف فردا".

سكوت الفصائل أو حتى عجزها عن حل الإشكال يعني أحد أمرين: إما أنها معنية فقط باستعراض قوتها بكوادرها، أو أنها أقل من قدرتها على السيطرة عليهم

هذا التعليق يعني مزيدًا من النقاش والحوار، لحل الإشكال، وسيحل.

هذا جوٌ لا تحتمله أي جامعةٍ في الوطن، مطلقًا. ومرة أخرى، لا فضل لأحد فيه بالمعنى الفردي. هذا جهدٌ تراكمي صنعه مجتمع جامعي أدرك حاجته إلى هذه التلة المطلة، صافية الهواء، وصالحة للفكرة، كائنة ما كانت.

الكتل الطلابية في الجامعة هي امتدادٌ للفصائل في الشارع، وتستطيع الأخيرة التدخل لإنهاء الخلاف، فهو خلافٌ داخل البيت الواحد "منظمة التحرير"، وسكوتها أو حتى عجزها عن حل الإشكال يعني أحد أمرين: إما أنها معنية فقط باستعراض قوتها بكوادرها، أو أنها أقل من قدرتها على السيطرة عليهم، وكلا الاحتمالين مرّ.

المتنبي العظيم قال: "وسوى الروم خلف ظهرك روم.. فعلى أي جانبيك تميل". وبيرزيت تعلم ذلك تمامًا، لكنها تحارب بما أوتيت من ثقة بحرمٍ جامعي تحدّه أسوار، لكنه مفتوح على سماء الله، لا تطال حريتَه يدٌ.

لا طلاب في جامعة بيرزيت هذا الصباح، لكنهم سيأتون. إنها ليست جامعة للعلم. إنها مدرسة حياة.


اقرأ/ي أيضًا: