26-ديسمبر-2019

الدكتور عمر في عيادته في غزة حاملاً صورته في عيادة مرج الزهور

27 عامًا مرت على إبعاده إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، ومايزال الطبيب عمر فروانة يحتفظ على جدار عيادته الخاصة في مدينة غزة بصورة شخصية وهو يجلس في عيادة طبية ميدانية أنشأها مع عدد من رفاقه في المخيم لعلاج ما يزيد عن 400 مبعد، لكنها تحولت لعيادة يقصدها اللبنانيون أيضًا.

خيمة العلاج لمبعدي مرج الزهور أصبحت بسرعة قبلة اللبنانيين في المنطقة للعلاج من العقم، وطلب خدمة الإسعاف عبر "الكديش"

يروي فروانة في حديثه لموقع الترا فلسطين حكاية انشاء هذه العيادة داخل خيمة قماشية، وكيف صنع أثاثها، موضحًا أنها أصبحت بسرعة قبلة لعشرات المواطنين اللبنانيين للحصول على الأدوية والتشافي من العديد من الأمراض من بينها العقم وتأخر الإنجاب، إضافة لطلب خدمة الإسعاف عبر "الكديش".

رحلة الإبعاد

يعود الطبيب فراونة بذاكرته إلى تاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 1992 حيث تم اعتقاله من منزله في حي الصبرة بمدينة غزة، لتنطلق به شاحنة إسرائيلية بعد يومين من الاعتقال مقيد اليدين ومعصوب العينين الى جانب عشرات المعتقلين في رحلة سفر لا يعرف وجهتها امتدت لـ 40 ساعة متواصلة، وجد نفسه بعدها مبعدًا إلى لبنان.

اقرأ/ي أيضًا: سالم صافي: المقاتل الصامت إلى الأبد

يقول: "قررنا عدم دخول لبنان وأقمنا في منطقة حدودية بين خطوط الجيش الإسرائيلي والجيش اللبناني اسمها مرج الزهور، ومنذ اللحظة الأولى نظمنا أنفسنا وانتخبنا من يديرنا، وهنا اقترحت تشكيل اللجنة الطبية وإنشاء عيادة ميدانية لعلاج المبعدين".

تمهيد الأرض لإقامة خيمة العيادة

اجتمع 10 مبعدين يحملون شهادتي الطب والصيدلة كخطوة أولى لإنشاء العيادة، كان بينهم محمود الزهار وعلي تايه وسمير القاضي، لكن في تلك اللحظة لم يكن المبعدون يملكوا حبة دواء واحدة، فبدأوا بتدوين احتياجاتهم وترتيب دوام الطاقم الطبي على مدار 24 ساعة بانتظار وصول المساعدات.

10 مبعدين يحملون شهادتي الطب والصيدلة أنشأوا عيادة مرج الزهور

يُضيف فراونة، "بعد عدة ساعات وصلتنا بعثة من الصليب الأحمر، قدمت لنا العديد من الخيام ومجموعة متنوعة من الأدوية، بدوري اخترت أكبر خيمة لإنشاء العيادة وبعد إتمام نصبها، كان لا بد من توفير سرير للكشف على المرضى وخزانة لحفظ الأدوية، وقد فعلت ذلك ببعض الأخشاب والمسامير رفقة الزهار".

تحدي العقارب السامة

يستذكر فروانة التحدي الأول الذي واجهه في أول ليلة دوام في العيادة، عندما تعرض أحد المبعدين للدغة عقرب سام، ثم توالت اللدغات بعد ذلك، حتى أن أحدهم تعرض للَّدغ مرتين في ليلة واحدة، يقول: "لم نعتد على مثل هذا النوع من العقارب ولم نكن نعرف مدى خطورتها".

ويضيف، "توجهنا إلى حاجز قريب للجيش اللبناني في محاولة لنقل المريض للعلاج في أحد المشافي اللبنانية إلا أن ضابط الحاجز لم يمنحنا الموافقة، عدنا أدراجنا وأعطيت المريض دواءً بديلاً وتماثل للشفاء خاصة بعدما تبين أن العقرب الذي لدغه خفيف السمية".

استعان الطبيب فراونة وعددٌ من رفاقه بسكان أحد المنازل الريفية القريبة لفهم طبيعة هذه العقارب، فأخبروه أن هناك نوعين من العقارب، شقراء ذات سية خفيفة وسوداء ذات سمية قاتلة، وما أن عاد الدكتور لعيادته حتى حضر وفد من الهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان، فطلب منه توفير أدوية لسموم العقارب.

العقارب السامة كانت التحدي الأول أمام الأطباء المبعدين لمرج الزهور

في اليوم التالي أحضر الوفد علاجًا للسموم، إلا أن تحديًا جديدًا طرأ وهو كيفية حفظه في ظل عدم وجود ثلاجة تبريد، فقرر فراونة وضعه في كيس من البلاستيك وأرفق معه حجرًا ثم غمسه في ماء النهر البارد وربطه بخيط طويل ألصق على نهايته ورقة صغيرة كتب فيها: "علاج لدغات العقارب للدكتور عمر".

اقرأ/ي أيضًا: مقالب الأسرى: نعبر عن إنسانيتنا

وما أن تم اجتياز تحدي لدغات العقارب حتى أُصيب عددٌ كبيرٌ جدًا من المبعدين بالإسهال والانفلونزا بسبب الطبيعة المناخية الباردة جدًا لتلك المنطقة. يقول فراونة: "مع تلك الموجة نفدت كافة الأدوية، إلا أن وفدًا متضامنًا من المواطنين اللبنانيين أسعفنا بإحضار مجموعة كبيرة من الأدوية في اليوم التالي، ثم توالت المساعدات الطبية التي مكنتنا من إجراء العديد من العمليات الجراحية الصغرى بعد ذلك".

الدكتور علي جعدة!

وبينما كان فراونة يتفقد صيدلية الدواء على الدوام للتأكد من عدم نفاد أي صنف، كان الطبيب علي تايه طبيب الأعشاب ينطلق في رحلاته فوق رؤوس الجبال لجمع الأعشاب والنباتات العطرية التي كان يصفها للمرضى من المبعدين.

الطبيب فراونة في عيادة مرج الزهور

ومن بين تلك النباتات التي كان يوصى بها تايه لعلاج الكثير من الأمراض نبتة الجعدة، حتى أنها أصبحت لقبًا يلازمه وبات اسمه المتعارف عليه بين المبعدين بالدكتور علي جعدة بدلاً من علي تايه.

ويذكر فراونة أن صيت الدكتور علي قد طار إلى سائر لبنان، حتى أن وزير الدفاع اللبناني في ذلك الوقت أرسل إليه طالبًا إحضاره هذه النبتة لعلاج والدته، وكذلك أرسل الأمين العام للجبهة الشعبية جورج حبش يطلبها للعلاج، وكذلك كان يطلبها الكثير من الزوار.

أجرى الأطباء المبعدون لمرج الزهور عمليات جراحية صغيرة في عيادتهم

ومن شدة ولع الطبيب تايه بجمع أصناف النباتات والاعشاب، فقد نظم معرضًا علميًا داخل إحدى الخيام للأعشاب التي تستعمل كأدوية والنباتات البرية النادرة، وقدم عن كل واحدة منها شرحًا موجزًا عنها بغرض توعية المبعدين والحفاظ عليها.

 علاج العقم وتأخر الإنجاب

يُبين فراونة أن عيادة المبعدين أصبحت قبلة لعشرات المواطنين اللبنانيين للحصول على الأدوية والتشافي من العديد من الأمراض من بينها العقم وتأخر الإنجاب، فهو متخصصٌ في هذا المجال وسكان تلك المنطقة كانوا يفتقرون للخدمات الصحية.

يُضيف، "في أحد الأيام حضرت سيدة لبنانية للعلاج من العقم وبعد تشخيص حالتها صرفت لها العلاج المناسب وبعد شهر واحد أرسلت إلينا عدة سلال من التين والحلويات تهنئنا بنجاح الحمل. لم تتوقف الأمور هنا، فقد أذاعت هذه السيدة الخبر لقريبتها المقيمة في سوريا فحضرت إلى عيادة المخيم للعلاج من تأخر الإنجاب، ومن ثم توالت الزيارات بهذا الخصوص من قبل الرجال والسيدات".

نجح الطبيب عمر فراونة في تقديم العلاج من العقم لامرأة لبنانية فذاع صيت العيادة في كل البلد

وأشار إلى أن بين عشرات الزوار للعيادة سيدة سبعينية تشبه والدته وتدعى الحاجة واردة، مبينًا أنها لم تكن تحضر إلا محملة بسلال تحمل مجموعة من الأجبان والحلويات التي تصنعها بيديها، وقد دعته لزيارتها فأجاب والتقطا صورًا تذكارية.

الطبيب فراونة في بيت الحاجة واردة

يقول فراونة: "مع توالي الأيام أصبح بيننا وبين سكان المنطقة عيش وملح، فكانوا لا يتحرجون من القدوم للمخيم في وقت متأخر من الليل عبر الكديش (بغلٌ كبير) لطلب حضور أحد الأطباء لتقديم الإسعاف لاحد المرضى داخله بيته".

الطبيب فراونة على ظهر الكديش

ويُبين أن الأهالي كانوا يعيدونه إلى العيادة بذات "الكديش" أيضًا، لكنه في إحدى الليالي قرر العودة مشيًا على الأقدام في ليلة وصفها بأنها "مرعبة" بعد أن تعطل المصباح اليدوي الذي كان معه أثناء مشيه في الوادي الذي تكثر فيه "الواويات".

يتابع، "لقد كانت قريبة جدًا مني وما أن كانت إحداها تعوي حتى يتعالى العواء في كل أنحاء الوادي، استمريت في المسير وأنا أرتجف من الخوف حتى وصلت المخيم بسلام".

على مدار سنة كاملة استمرت عيادة المخيم في تقديم خدماتها للمبعدين وسكان المناطق القريبة قبل أن يتمكنوا من كسر قرار الإبعاد عبر حشد الرأي العالمي لصالح قضيتهم، ما أجبر الاحتلال على إعادتهم إلى ديارهم على مرحلتين في شهري أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر من عام 1993.


اقرأ/ي أيضًا: 

موعد أول مع حيفا

ادفع الباب وادخل لترى كم غيروا صفد

عن محارب وسط رام الله