05-أبريل-2023
مسلسل ام الياسمين

لاحظت أن العديد من الملاحظات النقدية قد وجهت إلى مسلسل "أم الياسمين"، وهو مسلسل درامي يحكي قصة نابلس في مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ الشعب الفلسطيني، وهي الفترة الواقعة بين عام 1929 وعام 1936. كثير من هذه الملاحظات قد تكون حقيقية ومهمة، ويجب مراعاتها في حال استكمال العمل مستقبلاً، ومع ذلك لا بد من ذكر بعض الجوانب:

أولاً: تناول المسلسل فترة تاريخية هامة من تاريخ الشعب الفلسطيني لم يتم توثيقها فلسطينيًا بالشكل الذي تستحق، فلدينا ضعفٌ شديدٌ في توثيق مختلف المراحل التاريخية التي مر بها الشعب الفلسطيني مثل مرحلة الانتداب، والفترة التاريخية الواقعة بين عامي 1967 و 1948، ومرحلة الاحتلال ونشوء الحركة الوطنية، وانتفاضة 1987، وغيرها الكثير، حيث تقل الوثائق التي تناولت هذه المراحل، وما كتب عنها لم يعد في متناول الأيدي. لذا فإن غالبية الجيل الفلسطيني المعاصر ممن تقل أعمارهم عن 40 عامًا لا يوجد لديهم حد أدنى من المعرفة عن هذه المراحل. وعليه فإن المسلسل رغم ما احتواه من نواقص أو حتى نقاط ضعف شكل إضافة نوعية للجيل الجديد في هذه المرحلة، ووثق مرحلة تاريخية مهمة ويجب استكمال توثيق كل المراحل.

أهملت السلطة الفلسطينية منذ نشوئها صناعة الدراما التي توثق التاريخ النضالي الفلسطيني، وإهمالها يأتي ما بين المتعمد والقصور، ولكن ليس بسبب نقص الموارد المالية، فما تصرفه السلطة على الإعلام يمكنه أن يساهم بصناعة دراما فلسطينية هادفة،

ثانيًا: رغم أن الشعب الفلسطيني مليء بالقضايا والحوادث والشخصيات المحورية والتاريخية، لكن لم ينشأ لدينا صناعة دراما فلسطينية، وقد أهملت السلطة الفلسطينية منذ نشوئها صناعة الدراما التي توثق التاريخ النضالي الفلسطيني، وإهمالها يأتي ما بين المتعمد والقصور، ولكن ليس بسبب نقص الموارد المالية، فما تصرفه السلطة على الإعلام يمكنه أن يساهم بصناعة دراما فلسطينية هادفة، إلا أن هذه لم تكن ضمن أولويات وزارة الثقافة أو الاعلام الرسمي الذي اقتصر دوره على الترويج للمسؤولين دون تحمل أية مسؤولية في صناعة الدراما. وعليه فإن مبادرة الشباب الذين قاموا بإنتاج هذا المسلسل، تغطي دورًا كان يتوجب أن تقوم به جهات رسمية لكنها لم تفعل ذلك.

هذا يُذكرني بمخرج فلسطيني قدير تعرفت عليه في بداية التسعينات، عاد إلى البلاد ليبدأ في صناعة الدراما الفلسطينية، لكنه لم يجد أي يد ممدودة له أو جهة تحتضنه، لا رسمية ولا خاصة، ثم غادر البلاد وهو مكبل بالديون، ولا أظن أنه عاد إلى البلاد حتى من باب الزيارة لحجم الإحباط الذي واجهه بسبب الإهمال الذي يعانيه هذا القطاع من العمل الفني، وإهمال المجتمع بمكوناته لهذا القطاع.

ثالثًا: تم بناء مسلسل "أم الياسمين" باستخدام طاقات بشرية عادية اعتمدت فقط على موهبتها دون خبرة ودون دراسة متخصصة. لذا كشف مسلسل "أم الياسمين" أن جامعاتنا الفلسطينية ليست سوى جامعات ربحية تخرج سنويًا آلاف الخريجين من محامين وإعلاميين وأطباء وغيرهم، لكنها لا تُخرّج أيضًا احتياجاتٍ أخرى يحتاجها السوق. معظم الجامعات فتحت كليات إعلام وأطلقت محطات تلفزة وفضائيات وإذاعات، وكليات حقوق وأنشأت مراكز حقوقية داخلها، لكنها لم تساهم إطلاقًا في إنشاء كليات فنية متخصصة في التمثيل والمسرح، ولم تؤسس مراكز إنتاج فنية على غرار الفضائيات التي أطلقتها الجامعات بفعل التنافس وتقليد العمل.

كشف مسلسل "أم الياسمين" أن جامعاتنا الفلسطينية ليست سوى جامعات ربحية تخرج سنويًا آلاف الخريجين من محامين وإعلاميين وأطباء وغيرهم، لكنها لا تُخرّج أيضًا احتياجاتٍ أخرى يحتاجها السوق

رابعًا: كان تمويل مسلسل "أم الياسمين" ذاتيًا من المبادرين لإنشائه وفقًا لما أعلنوه في وسائل الاعلام، وقد كشف ذلك عن قصور كبير في رعاية المؤسسات الاقتصادية للإنتاج الدرامي، رغم المسؤولية الاجتماعية الواقعة عليها في دعم مثل هذه المشاريع. كما يكشف هذا عن قصورٍ لدى أصحاب رأس المال في خلق شركات استثمارية مختصة في الإنتاج الدرامي.

أعتقد في النهاية أن الملاحظات النقدية، المحقة منها وغير المحقة، من شأنها أن تساهم في تطوير أي عمل، ويجب عدم التعاطي معها بحساسية باعتبارها سببًا للإحباط، أو أن ينخرط أصحاب العمل الفني في التبرير أو الدفاع عن النفس، بل عليهم الاستفادة من التغذية الراجعة. وعلينا أيضًا أن نأخذ العبر لغياب هذا النوع من العمل الفني الذي يمكن أن يشكل سوقًا اقتصاديًا. فما الذي يمنع أن تكون لدينا دراما فلسطينية منافسة للدراما السورية واللبنانية وحتى المصرية؟

وعلينا أن نعي أن إنتاج الدراما التاريخية قد تزيد فيه تكلفة التوثيق وتحضير المادة اللازمة للإنتاج عن تكلفة الإنتاج ذاته، إذ نحتاج إلى باحثين ومنقحين ومختصين اجتماعيين وكتاب سيناريو، حتى تصبح لدينا مادة يمكن أن تتحول إلى عمل درامي تاريخي.

اختتم بقولي: أن تضيء شمعة واحدة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة. وعليه كل التقدير للطاقم الذي أنتج مسلسل "أم الياسمين". فما فعلوه، ورغم كل الملاحظات، يُقدر بأنه عمل عظيم يستحقون التكريم عليه، ويكفي أنهم طرقوا بابًا لم يجرؤ أحدٌ على طرقه من قبل في صناعة الدراما التاريخية.