23-أبريل-2018

صورة أرشيفية: مُسن يشارك في مسيرة العودة بخان يونس - (Getty)

يتآكل الحطب بلهبِ النيران على باب الخيمة البيضاء، وتتبختر رائحة البندورة المقليّة لتوّزع للزائرين دعوةً للحضور والتذوق. أمام مقلاته الكبيرة يجلس السبعيني "أبو علاء شكوكاني" من مدينة اللد المحتلة، ويُخبرنا أنّ البَرَكة تكمن في يد "الختايرة". يتنقل بين الخيام، يصنع أكلاته القديمة ليقيتَ بها الثوار، ومنها "السمّاقية" و"الكِشك" و"الهندبة" و"اللسان" و"سلطة الزبدية"، ويُنعشهم بكأسٍ من الشاي المُخمر على النار.

[[{"fid":"71587","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":570,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

لم تُفارق عينا شكوكاني الأراضي الخضراء الممتدة خلف السلك الشائك، المحكوم عليه بعدم الاقتراب منه، قائلاً: "كل ما أشوف بلادي بقعد أبكي، اللد راحت، وحمامة طارت، والجورة طمّوها اليهود، والخير والبركة ضاعت".

"أبو علاء شكوكاني" يراقب الأراضي المحتلة من مخيم العودة شرق غزة، ويعد أكلات شعبية يُقيت بها الثوار، مستذكرًا "لمّات أيام البلاد"

حضوره للمنطقة الحدودية شرق غزة، يعيد لذاكرته الكثير من تفاصيل الحياة "أيام البلاد"، والعادات التي لطالما افتقدها، " بكفي أشوف لمة الناس وقعدتهم مع بعض، القهوة على كانون النار، المية الباردة من الفخّارة، خُضرة ووسع وهوا بلادي يشفي العيّان"، كما يعبّر لــ الترا فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا: ليالي الساهرين على "عتبة البلاد".. صور وفيديو

ابنُه، الشهيد عرفات الذي ارتقى عام 2001 في ذكرى يوم النكبة، كان دافعًا قويًا لإصرار شكوكاني على الوقوف إلى جانب الشباب الثائرين، "كي يأخذ حق ابنه من الجنود الإسرائيليين الذين قتلوه قبل أن يستلم شهادته الجامعية بأيام".

يستحضر السبعيني أعظم ألمٍ عايشه في حياته قائلاً: "بنساش يوم رجعت على بيتنا في اللد، دقيت على الباب، طلعت من بيتي وحدة يهودية، رفضت تدخلني الدار، صرتْ ضيف مش مرغوب فيه بعد ما كنت أنا صاحب الدار، شو في قهر أكبر من هيك؟".

ويخشى شكوكاني من أن يفوته يوم العودة، فيُثابر على الحضور بشكل دائم، ويسابق الشباب من حوله في الوصول إلى السلك الحدودي، فهو كما يقول: "حافظ كل شبر ببلدتي، وكل شارع ودار، ورح أدلّ الشباب على بلادهم، وأنا راجع على بيتي، أقعد تحت الشجرة، واندفن في ترابها".

[[{"fid":"71588","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":570,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

في الخيمة المُجاورة يُطربنا الثمانيني "أبو أحمد البلعاوي" من بلدة هربيا المهجّرة بالمواويل الفلسطينية القديمة، يُحيي بصوته لحن العودة، ويثير في الأشجان مشاعر الشوق لجمال البلاد وبهجة الحياة فيها، ويمنحك الحياة القديمة بتفاصيلها البسيطة، فتعيش فيها كأنها حاضرة للتو، وكُلمّا اقتربَ من لحظة التهجير تجتاح الدموع عينيه وتختنق العبرات في صوته.

"أبو أحمد البلعاوي" يغني عتابا في مخيم العودة شرق غزة، مستذكرًا عندما كانت أغانيه "تدفع العجوز قبل الصبي" إلى الدبكة "أيام البلاد"

بجوارنا ينشغل بعض الشباب في أداء الدبكة الشعبية والدحيّة، يقطع البلعاوي حديثه "هادي لِعبْ مش دبكة، الله يرحم أيام دبكتنا، لمن كُنتْ أغني ينزل العجوز قبل الصبيّ". وحتى هذا اللحظة يفتخر الثمانيني بأنه يُطلب دائمًا لمصاحبة الناس في جلسات السمر، كي يُغنّي لهم تاريخ الوطن.

هجرنا يوم جمعة وبين سبت            ودشّرنا المنازل والمساجد

أنا لأجلك فلسطين لأضل ثابت         عبد مرهون لحين الطلب

الدموع لم تفارق عيني البلعاوي طوال حديثه، وهو يستذكر وطنه المسلوب، وزوجته التي فارقت الحياة منذ مدة قصيرة، رغم تعاهدهما على العودة معًا.

عتابا وآه يا قلبي عتابا                ساقانا الدهر وذوّقنا العذاب

يا دمع العين يا رفيق الغَلابَة         أنا وانت بنبكي على الأحباب

يحفظ الثمانيني طريق العودة إلى بلدته عن ظهر قلب، وكذلك عدد الكروم التي سُلبتْ خيراتها من قبل الاحتلال، فقد كان دليلاً للناس في شبابه، ولم يكن يستعصي عليه أيّ مكان، "وسيعود ليكون دليلاً للعائدين إلى بلدانهم من الشباب والثوّار والمُهجرين قريبًا. فلن يضيع حق وراءه مُطالب"، وفق قوله لـ الترا فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا: جريحات في مسيرات العودة.. "لنكون أول العابرين"

وبين جموع الفتية والفتيات، تتوسط الثمانينية "أم نهاد عبد الله" من مدينة يافا المحتلة، تمسك بعلمها الفلسطيني، وتسير أمام الثائرين، تُخبرهم أنها ستقودهم إلى طريق العودة، وأنّ هذه اللحظة اقتربت. تُشعل في داخلهم الثورة، فينتفضون، ويعلو صوت التكبير أكثر.

[[{"fid":"71589","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":480,"width":499,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

ترفض "أم نهاد" رجاء أبنائها البقاء في المنزل خوفًا عليها من التعب، نظرًا لكبر سنها وضعف وضعها الصحي، وسرعان ما تنهرهم "أنا صحتي مش أهم من الشباب اللي بتضحي بروحها على الحدود، خذوني هناك". وأمام إلحاحها الشديد وإصرارها يضطر أبناؤها للاستجابة دومًا.

"أم نهاد عبد الله" تتجاهل وضعها الصحي وتحمل علم فلسطين متقدمة المتظاهرين شرق غزة لتدلّهم على طريق العودة

لا تكتفي "أم نهاد" بحضورها، بل تحث جميع أبنائها وأحفادها على الذهاب والمشاركة في مسيرات العودة، وتقص عليهم ذكرياتها في بلدتها قبل الهجرة، وأنّ لا نعيم يُماثل جلسة واحدة تحت شجرة البرتقال في بيارتهم.

بعد هجرتها بقيَ بعض أقاربها في مدينة يافا، كانت تُحاول دائمًا زيارتهم حتى عام 2000، وزيارة مكان بيتها القديم الذي أُقيمت على أنقاضه محطة لتوليد الكهرباء، وكُلما مرّت بشارع بيتها كان الألم يستجمع عالمه في قلبها، فتبكي مرارة البعد، وتتمنى "لو يتوقف فيها الزمان عند تلك اللحظة"، وفق قولها لـ الترا فلسطين.

وتصف "أم نهاد" الطريق للشباب من حولها، "ساعة زمن من غزة ليافا بنصل، وقتها راح خبركم عن كل زاوية فيها، وتشموا ريحة شجرها اللي كانت تصل لآخر البلد، وبحرها اللي بنعش القلب".

تؤمن "أم نهاد" أن الكبار يموتون ويتركون خلفهم جيلاً من المناضلين الثائرين الذين لا يُمكنهم التخلي عن شبرٍ واحد من أراضيهم التي لم يروها، "فكيف لو يرونها حقيقة؟ وسيرونها قريبًا بإذن الله، فالكبار يموتون لكن الصغار لن ينسون" وفق تعبيرها.


اقرأ/ي أيضًا:

زقاق المخيم لن يضج بـ"فطبول" محمد أيوب بعد اليوم

صور | الفن رديفًا لمسيرات العودة

صور | الكاريكاتير يحاول فرديًا مواكبة مسيرات العودة