12-مايو-2018

محمد حسين مع متظاهرين في أحد مخيمات العودة بغزة

كنتُ منشغلة بالتقاط صورة لطفل جانب الخيمة، حين تسلل لأذني سؤال يتكرر في غزة: "قولك يا نور، هل سينفع أن تحين الفرصة لنخرج من المعبر وربنا يفرجها علينا زي الناس؟". لكنه هذه المرة بلهجة مكسرة مختلطة بين العربية الفصحى واللهجة الفلسطينية، لألتفت خلفي وأرى ثلاثينيًا ذو وجه بملامح من شرق آسيا، بجانبه فتاة منتقبة، تلف رقبة كل منهما كوفية فلسطينية.

سألته من أي البلاد أنت؟ فأجاب بسرعة: من قطرة، فقلت أقصد بلدك الأصل، فأجاب: من أندونيسيا. إنه هندرا ويجايا، شاب أندونيسي، يعتبر فلسطين وقفًا إسلاميًا ومن واجبه أن يؤدي دوره النضالي كمسلم لتحريرها، فجاء إلى مخيم العودة ليعتصم مع شريكة حياته اللاجئة من قرية قطرة المهجّرة - قضاء الرملة  - عام 1948.

الترا فلسطين يلتقي أجانب يقيمون في قطاع غزة ويشاركون في مسيرات العودة

ارتبط هندرا بشابة غزية تعزيزًا لارتباط روحه منذ المراهقة بحلم القدوم لفلسطين والاستقرار فيها. يقول: "خططت أن أعيش في فلسطين منذ الصغر، حيث كنت أستمع كثيرًا لفضائلها من الشيوخ في مدينتنا، وحين درست في الأزهر قررت أن البقعة قريبًا جدًا فوجدت نفسي أقف أمام معبر رفح لأدخل غزة".

 ويتابع، "أحببت في غزة كل شيء، فرغبت أن أصبح جزءًا منها، وقررت البحث عن شريكة العمر".

الفلسطينية نور، حوّلت هندرا من شخص أندونيسي يتحدث العربية بلكنة "مكسرة"، إلى خبير في اللهجة الغزية، فتراه يحيّي أحدهم قائلاً "حبيبي تقلقش"، أو يغمز "تقلقش"، ويحب من الطعام السماقية، ويحفظ عن ظهر قلب حي الشجاعية، ويتجول في ميدان فلسطين، ويعيش في مخيم البريج، ويحفظ جدول الكهرباء، ويقف أيامًا على باب معبر رفح ثم يعود بخيبة بعد إغلاق المعبر فجأة وتأجيل السفر ليعرّف عروسه بأهله، وهو الآن من رُواد مخيم العودة مع زوجته التي تحمل جنينًا في أحشائها.

ولعل جلال الدين الرومي كان محقًا حين قال: "اتبع قلبك دومًا وسوف يأخذك حيث كنت في حاجة للذهاب". وسواء أكانت رقية ديمير (27 عامًا) تعلم بعبارته هاته أم لم تعلم، إلا أنها نفذتها عندما تركت عائلتها وأصدقاءها وعملها في تركيا لتختار إحدى أكثر المناطق اشتعالاً على هذا الكوكب وتستقر فيها.

تقول رقية إنها أحبت غزة فسافرت لدراسة الماجستير فيها، وأصبحت أول طالبة أجنبية تدرس في قطاع غزة المحاصر، وقد وصلت القطاع في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016، قبل أن تُسجل لنفسها الأسبقية بأن تكون أول تركية تركية تشارك في مسيرات العودة من أرض الميدان.

على بعد أمتار من السياج الفاصل، حيث بإمكانك أن ترى الجنود بوضوح في منطقة حدودية كان مجرد الاقتراب منها سببًا لأن تصبح خبرًا عاجلاً، تقف رقية مع الفلسطينيين الذين يعتصمون هناك بعد أن أدوا صلاة الجمعة. تقول: حين آتي إلى هنا أشعر بتناقض غريب أعجز عن تفسيره، كيف للرجال والنساء والأطفال والشبان أن يقفوا هنا عزلاً في مواجهة جنود قناصة يتخفون خلف السواتر ويستعينون بأحدث التقنيات للقتل، ثم يستمر العُزَّل بالتقدم والجندي بالقنص، لا الأعزل عاد ولا الجندي توقف".

رقية التي كانت ليلة الانقلاب الفاشل في تركيا أصعب ليلة في حياتها، همست لها صديقتها حينها، "يبدو أن الله يؤهّلك لغزة يا رُقية". سألتُها ونحن نسمع صراخ الشبان مع اشتداد سحابة سوداء في الجو، "ألا تخافين؟" ابتسمت وقالت: "لقد قتلت الخوف منذ أن جئت إلى غزة".

تكتب رقية مقالات باللغتين التركية والإنجليزية شارحة الوضع المعيشي في قطاع غزة، وما يتعرض له المحاصرون من انتهاكات لحقوق الإنسان. تقول: "ما أستطيع فعله عبر اللغة التي أجيدها هو أن أشرح ما أعايشه هنا، وما نعانيه من ظروف صعبة، وكيف هي طبيعة الحياة في هذه البقعة للآخرين في الخارج".

وتبيّن أن طلابًا أتراك تواصلوا معها وأعربوا عن رغبتهم في الدراسة بغزة، وقد أتى العشرات منهم بالفعل إلى معبر رفح، لكن لم يُسمح لهم بالمرور.

محمد حسين (30 عامًا)، شاب أندونيسي اعتاد الآن مشهد السماء وهي تتكئ على عواميد دخان "الكوشوك" المحترق والمتراص على الأرض، والعرق الذي يسيل عن الوجوه إلى الرقاب، والموج البشري الذي يقترب تجاه السياج الفاصل ثم يرجع للخلف، مع طلقات الرصاص في أي اتجاه، وزخات قنابل الغاز الهابطة من السماء. فمحمد شارك منذ اليوم الأول في مسيرات العودة، بل تنقّل بين مخيمات العودة على المناطق الحدودية.

يعتبر محمد أن مشاركته ليست للمشاهدة، بل تمثيلاً لملايين الإندونيسيين المسلمين الذين يتضامنون مع القضية الفلسطينية، ويؤمنون بعدالة ما يفعله الفلسطينيون. يضيف أنه يوثق ما يحدث في المسيرات، وينقله بالصور إلى الأندونيسيين، إضافة لمقابلات مع المشاركين في المسيرات.

تتشابه قصة محمد مع مواطنه هندرا، لكنه أتى إلى قطاع غزة برفقة نشطاء آسيويين وأوروبيين في قافلة قدمت نهاية سنة 2010، ثم قرّر البقاء للمساهمة في بناء المستشفى الإندونيسي الذي تم افتتاحه قبل عامين ونصف، قبل أن يتزوج بفلسطينية من القطاع.

أما المغربية جميلة بدهكت (27 عامًا) فلم يُخيَّل لها سابقًا أن تتحول من متابِعةٍ لأحداث فلسطين، إلى ناقلة عبر وسائل الإعلام لأخبار فلسطين من داخل غزة. تقول: "ربطني بالقضية الفلسطينية حب عميق تطوّر إلى المشاركة في المهرجانات التي تجرى في المغرب تضامنًا معها، ثم أصبحتُ زوجة لغزّي، وأما لطفل وطفلة يجري الدم الفلسطيني في شرايينهم".

جميلة، ترجمت عدة أفلام فلسطينية قصيرة، وتعمل كمراسلة باللغة الفرنسية، وهي تفخر بإعداد تقارير حول مسيرات العودة "كواجب يقع عليها لدحض ادعاءات الاحتلال، والتأكيد أن مسيرات العودة سلمية، وقانونية، ومبنية على قرارات دولية" كما تقول.

تدعو بدهكت  كل الشعوب العربية لدعم الشعب الفلسطيني في مسيرته من أجل العودة، وتقول إن المغاربة يُدركون تمامًا جدوى المسيرات الجماهيرية، فهم الذين خاضوا عام 1975 مسيرة جماهيرية استراتيجية لاسترجاع الصحراء المغربية، "ولذلك فإن الإيمان بجدوى المسيرة لن يكون محل نقاش" كما تقول.


اقرأ/ي أيضًا:

طلاب أجانب في غزة: هنا ما يستحق الحياة

روسيات في غزة: كيف الحياة؟

مسنون على الحدود.. دليل الثوار لطريق العودة