10-نوفمبر-2019

بعد 17 سنة من الغياب القسري، تتهيأ أسماء عمارنة وبناتها السبعة لاستقبال الزوج والأب محمود عمارنة، في حكاية بدأت فصول معاناتها عام 2002، عندما غادر محمود البيت ولجأ إلى الجبال مختفيًا عن أذرع الاحتلال العسكرية، إثر اتهامه بقتل جندي إسرائيلي. هذا الاختفاء القسري استمرَّ 6 سنواتٍ قبل أن يتم اعتقاله.

الأسير محمود عمارنة على موعد مع الحرية بعد 11 سنة في الاعتقال سبقها مطاردته لـ6 سنوات

تقول أسماء: "بدأت رحلة المطاردة بحثًا عنه ليبدأ معها ترحالنا بعد مكالماتٍ سريةٍ من أجل لقائه إما في جبال طولكرم أو مخيم جنين". تقف بين الفخر بذكائها وخيبة الأمل من "الخيانات" التي منحت الاحتلال معلوماتٍ عن زوجها دفعته إلى اقتحام بيتها مراتٍ كثيرة بحثًا عن محمود هذا عدا عن الجواسيس الذين استقروا تحت نوافذ المنزل بحثًا عن أي خبرٍ يوصلهم إليه.

اقرأ/ي أيضًا: لا تزر أحدًا.. لا تستقبل أحدًا: عن تجربة الاختفاء فلسطينيًا

قضت أسماء شبابها بين الأرض تنكشها وتزرعها صيفًا، وفي مصانع الخياطة شتاءً، وفي الخريف تعمل بنظام "الضمان" في قطف الزيتون وتبيع منتجاتها، من أجل توفير رزقٍ تعيش منه حياة كريمة مع طفلاتها.

أضافت، "ما بين الستين إلى السبعين شيقل وبعد عشر ساعات من العمل الحمد لله استطعت أن أعيل الأسرة كاملة لوحدي، إلى جانب المساعدات المادية من بعض المؤسسات الحكومية".

هنا عدَّلت عمارنة جلستها متكئة على الكرسي بعد أن شعرت بألم في ظهرها، وتذكّرت "التاريخ المفصلي" في حياتها وهو 11 تشرين ثاني/نوفمبر 2008، عندما اعتقل جيش الاحتلال زوجها محمود، وحكم عليه بالسجن 11 سنة، وعليها بمزيد من العمل والتعب طوال هذه السنوات لإعالة بناتها.

بكثيرٍ من الرضا تُبيّن أسماء أنها أنجبت ثلاث بناتٍ خلال فترة مطاردة زوجها. وخلال اعتقاله أعانت أكبر بناتها سماح على دراسة البكالوريوس والماجستير، ثم زوّجتها واثنتين من شقيقاتها.

أسماء عمارنة، عملت في قطف الزيتون والخياطة والزراعة، وزوّجت ثلاثًا من بناتها، كما أعانت إحداهن على الدراسات العليا

وأمام الضغوطات العائلية لإنجاب "ولي العهد"، أجرت أسماء ثلاث عمليات زراعة بعد تهريب نطف زوجها من خلف القضبان، لكنها جميعًا باءت بالفشل.

اقرأ/ي أيضًا: مطاردون سابقون يحكون عن التخفي ومراوغة الاحتلال

ابنتها إيمان، استذكرت خلال حديثها معنا سباقًا مع أبيها كلٌ على دراجته، اصطدمت خلاله بدوارٍ يتوسط الطريق ثم وجدت نفسها بين ذراعيه يغمرانها خوفًا وشكرًا لله على سلامتها.

أختها غادة مازالت تذكر يوم اعتقال والدها، وتروي لنا جانبًا منه قائلة: "بعد أن اقتحم جيش الاحتلال البيت حاولت الدفاع عن أبي متلقية الضرب عنه، ما جعل أبي يعلن استسلامه طالبًا منهم عدم تقييده أمامنا، ومن ذلك أدركت أنها نهاية المطاردة واللقاء الأخير".

قاطعتها قمر مستعرضة مجموعة من الصور ضاحكة وهي تستذكر يوم لقاء والدها مع أمها دون عازل في عام 2017، وهو اللقاء الأول دون عازل منذ الاعتقال ولم يدم أكثر من 30 ثانية. قالت: "لأول مرة أرى أمي وأبي في سعادة حقيقية".

أختهن سنابل، هي الوحيدة التي لم تنعم بحضن والدها لحظة الولادة. عرضت علينا الصورة الوحيدة التي جمعتها مع والدها، وذكرت تفاصيل لقائها الأول معه عندما اختبأت خجلاً خلف جسد أمها النحيل: "أولاً عضضته بأسناني عتابًا على فعلته، ثم أخذ يدور بي مثل الأميرات".

تُعلق قمر: "عندما حملها وأخذ يداعبها، شعرت بنار تحرقني لأنني لا أستطيع أن أكون مكانها". أجابت سنابل، "أخبرني أبي أننا سنلعب في الأرض، ونبتاع السكاكر وأنام في حضنه ونذهب معًا إلى المدرسة. والأهم أننا سنشتري دراجة". فيما قالت إسلام: "نعم، فاتنا الأوان، ويقف العمر الآن جدارًا بيننا، لهذا لم يبق لنا سوى تعلم التكيف على العيش معه".

تُزيح أسماء وجهها على استحياء، وتعرض مشهد الاحتفال بيوم ميلادها مع زوجها محمود عبر مكالمة مصورة أهداها فيها أغنية "انزل يا جميل ع الساحة".

خلال وجودنا هناك، فاجأ محمد العائلة باتصالٍ هاتفيٍ، كأنه علِمَ بحديثنا فاتصل ليشاركنا في الجزء المتبقي منه. تسابقت الأخوات لسماع صوته، لكن كان لي النصيب الأكبر في هذه المكالمة.

بعد التحية والتعرف على الأحوال، سمعت همساتٍ في أذني من البنات: "اسأليه شو بدك تعمل لخالتي أسماء؟ احكيله بدك تتزوج؟ رضيان بالبنات ولا بدك ولد؟". جاءت إجابات محمود مطابقة مع أمنيات بناته، ثم انتهى الاتصال وبقيت العائلة على أمل بأن يُصبح الوعد حقيقة.

يحل موعد الإفراج عن عمارنة اليوم الأحد 10 تشرين ثاني 2019. تقول أسماء: "أديت أمانتي كأم على أكملها، أعددت بيتًا جديدًا لمحمود حتى نبدأ به من جديد بعيدًا عن كوابيس الماضي. أما عن نفسي فكسوتها ببعض المعالجات التجميلية إلى حد الفستان الربيعي استعدادًا لإقامة حفل استقبال دعوت له كل الأحبة".

أضافت، "تعبتُ من تحمل المسؤولية لوحدي. أريد التجرد من كل شيء، وأن تكتمل سعادتنا بعيدًا عن أي خيبة".

تتساءل بنات محمود وأسماء عمارنة عن كيفية التأقلم مع وجود والدهن بينهن وهن اللواتي اعتدن على حضور مؤقت للرجال

سألت بناتها عن استعدادهن لاستقبال والدهن، فضج المكان بضحكاتٍ هستيرية توحي بإغمائهن لحظة اللقاء الأول به، وهن اللواتي لم يعتدن على وجود رجلٍ يُشاطرهن تفاصيل حياتهن اليومية دون أن يذهب.

قالت قمر: "تعودنا على استقبال الأقارب من الرجال مدة زمنية تنتهي بعدها بمغادرتهم، لكن أن يبقى معنا أحدٌ في البيت على الدوام فهذا يصعب علينا اعتياده. وماذا إن كان هذا المقيم أبي؟".

أكملت غادة الحديث عنها قائلة: "حاولنا مرات عديدة أن نفرق بين مصطلح رجل وأب، لكن كوننا لم نعشه فهذا طبيعي أن نستصعب التأقلم معه، خاصة وأننا دخلنا في سن الشباب. لكن ما يهم الآن هو اللقاء، وليبقى الآخر للزمن".

في هذا المشهد، تذكّرت عائلة الشهيد الأسير ياسر حمدوني الذي توفي سنة 2016 خلف قضبان السجن، فلم يُكتب لوالده إلا لقاء جثة هامدة يدفنان معها أحلامهما وأشواقهما له.


اقرأ/ي أيضًا: 

عبد السلام بني عودة: "ترحل الأيام عنا ونبقى"

السجن وعالم الكلمات

موعد أول مع حيفا