08-أغسطس-2019

صورة تعبيرية - gettyimages

يبدو أن الحال الذي وصل إليه الفلسطينيون يشبه إلى حدٍ كبيرٍ الحال الذي وصلت إليه الأندلس بعد سقوط حكم الدولة الأموية في بدايات القرن الخامس الهجري، حيث أسس كل أمير أندلسي مملكته في المنطقة التي يعيش فيها، ونشأت في هذه الفترة ما يزيد عن 22 إمارة جديد في صقاع الأندلس، وبقيت هذا الإمارات متناحرة، لكل مملكةٍ قوانيها الخاصة في ظل غياب سلطةٍ مركزيةٍ واحدة، حتى كانت فريسة سهلة لأهل شمال الأندلس من المسيحيين الذين نجحوا في إنهاء هذه الممالك باعتبارها آخر مظاهر الحكم الإسلامي للأندلس.

في فلسطين تشكلت لدينا ممالك طوائف جديدة، حيث يشعر أعضاء كل طائفةٍ أنهم بحاجةٍ إلى التماسك والتعاضد دفاعًا عن مصالحهم

في فلسطين يتشابه الحال، إذ تشكلت لدينا ممالك طوائف جديدة، يشكل كل مجموعةٍ من الأعضاء المتشابهين في المهنة طائفة خاصة بهم، فأصبح لدينا طائفة للأطباء، وأخرى للمحامين، وواحدة للمهندسين، وأخرى للمستثمرين، وغيرها للمجتمع المدني، عدا عن طوائف الأمن والنيابة والقضاة، وأكثر من 45 مملكة أنشئت على شكل هيئاتٍ عامة يحكمها مسؤولين تولوا أمرها مدى الحياة، ويشعر أعضاء كل طائفةٍ أنهم بحاجةٍ إلى التماسك والتعاضد دفاعًا عن مصالحهم الخاصة، يختلفون فيما بينهم كثيرًا، لكنهم سرعان ما يتكاتفون لمواجهة أي خطر خارجي، ويصبون جام غضبهم على من يتخطى حدودهم حتى لو كان صاحب حق يبحث عنه.

اقرأ/ي أيضًا: القضاء والإعلام وصراع أباطرة الحكم

إن أحدث تقليعات مجابهات الطوائف، هي تلك المجابهة التي حصلت اليوم بين نقابة الأطباء والنيابة العامة، فالقضية التي فجرت هذه الحرب هي قضيةٌ اعتياديةٌ تنظر النيابة العامة أمثالها سنويًا آلاف القضايا، لكنها هذه المرة لم تكن مثل كل تلك المرات السابقة. فالقصة تعلقت بطبيبٍ قررت النيابة العامة توقيفه على خلفية شكوى قُدمت ضده، وما أن تم توقيف الطبيب على ذمة النيابة حتى صدر عن نقابة الأطباء البيان العسكري الأول الذي يعلن عن إخلاء كافة المراكز الطبية من الطواقم الصحية، حيث ظهر الأمر للعامة كأن هذه المراكز الطبية ستكون عرضة لهجماتٍ صاروخية أو قصفٍ بالطائرات أو السلاح الكيماوي، الأمر الذي أوجب إخلاءها بهذه السرعة.

لاحقًا، تبين أن السبب أخطر من ذلك بكثير، فقد جرأت النيابة العامة دون استفادة من دروس الماضي على توقيف طبيب للتحقيق معه، فكان الرد مزلل، ولم يقتصر الأمر على إخلاء المراكز الطبية، بل أُعلِنَ لاحقًا عن قطع علاقة نقابة الأطباء مع النيابة العامة، وأنذرت النيابة العامة مهلة زمنية محددة بالساعات كي تتراجع عن قرارها تجنبًا لأي خطواتٍ تصعيديةٍ قد تتخذها مملكة الأطباء ضدها، دون توضيح إن كان الأمر سيصل إلى حد اجتياح مقرات النيابة في ظل لغة التصعيد.

بعد مرور كل هذا الوقت وما رافق الحادث من تطوراتٍ، يكون توقيف الطبيب قد فقد مبرراته، ما لم يكن هنالك مبرراتٌ لم ينجح بيان النيابة في عرضها

في المقابل لا أدري ما هي الخلفية التي دفعت النيابة العامة إلى توقيف الطبيب المذكور بعد عدة شهور على تقديم الشكوى، علمًا بأنه ترافق مع الحادث محل الشكوى اعتداءٌ على الطبيب، وتم إطلاق النار عليه بتاريخ 1 شباط/فبراير 2019 ، وبالتالي بعد مرور كل هذا الوقت وما رافق الحادث من تطوراتٍ يكون التوقيف قد فقد مبرراته ما لم يكن هنالك مبرراتٌ لم ينجح بيان النيابة في عرضها.

اقرا/ي أيضًا: من أين لكم كل هذه الكراهية

والتوقيف هو وسيلةٌ تقترن بضرورات التحقيق وليس العقاب، وكان بإمكان النيابة العامة العامة أن تمارس عملها دون أن تضطر إلى التوقيف، لا في هذه الحالة فحسب كون المتهم طبيبًا ولا يجوز توقيفه، بل في غالبية الحالات من باب أن حرية الإنسان مقدسة والأساس هو افتراض البراءة،  ولا يجوز أن تحتجز حرية الإنسان إلا في ظروفٍ يمكن أن يشكل فيها بقاء المشتبه به حرًا خطرًا على أدلة التحقيق أو على المجتمع.

أعتقد أيضًا أن هذا النوع من القضايا يجب أن يتم التحقيق به في سريةٍ تامةٍ وفقًا لما نص عليه القانون، ولا يحق للنيابة أن تعلن في بيان صحفي عن التهمة الموجهة إلى الطبيب، مهما كانت الأسباب المقابلة حتى لو كانت قضية رأي عام، ومهمتها فقط أن تقدم لائحة الاتهام إلى المحكمة، إن تبين لها ما يستوجب تحويل الملف إلى المحكمة، وهي صاحبة الاختصاص أن تقرر عقد جلسات المحاكمة بسريةٍ تامةٍ أو أن تكون علنية، وهنا يتجسد حق الناس بالمعرفة لا عن طريق النيابة، وهذا أمر يتوجب على النيابة من وجهة نظري مراجعته.

ما جرى في قضية الطبيب وتفاعلاتها يعكس الحال الذي وصلنا إليه في ظل حكم الممالك، وشواهد حكم الممالك كثيرة ومتعددة، ونرصدها يوميًا، إذ نلحظ الكثير من الطوائف تصدر قرارات أشبه ما تكون بالتشريعات تمس مصالح آخرين، لا يحول شيءٌ دون تطبيقها إن كان بإمكان مصدريها تطبيقها، كحال معدلات القبول لطلبة القانون وعضوية النقابة.

نحن بحاجةٍ إلى سلطةٍ مركزيةٍ تعزز نهج اللامركزية المبنية على فكرة المواطنة الصحيحة، لا تلك التي تعزز نهج روابط الدم أو المهنة

إن دلَّ تعاظم سلطات الممالك الطائفية على شيء، فإنه يدل على مدى ضعف السلطة المركزية وترهلها، فهي سلطةٌ فاقدةٌ لقدراتها التشريعية، وفاقدةٌ لقدرتها على حماية الموطن وتطبيق القانون، لذا تلجأ أجهزتها السيادية إلى توقيع مذكرات التفاهم على حساب سلطتها في تطبيق القانون، وهي فاقدةٌ لقدرتها على دفع الرواتب لموظفيها، وأمراؤها غارقين في البحث عن مصالحهم الخاصة وليس مصالح العموم، ومثل هذه الظروف نموذجية لنمو حكم الممالك الطائفية كما نراها في هذا الزمان.

أعتقد أننا كمجموعٍ بحاجة إلى إعادة تأهيلٍ ثقافيٍ ونفسي، وهذا التأهيل لا يمكن أن يقوم به غير سلطة مركزية حيوية ترتكز على المواطن باعتباره مصدر شرعيتها، سلطة ينتخبها الفلسطينيون بحرية ووعي، تذيب وتصهر كل هذه المالك في إطار السلطة الواحدة، تحدد لكل مملكةٍ اختصاصها، يكون فيها للأحزاب السياسية اختصاصاتها، تمامًا كما للأمن اختصاصه، وللنقابات اختصاصها كما لمؤسسات المجتمع المدني، نحن بحاجةٍ إلى سلطةٍ مركزيةٍ تعزز نهج اللامركزية المبنية على فكرة المواطنة الصحيحة، لا تلك التي تعزز نهج روابط الدم أو المهنة، وتجعل من كل طائفة مملكة، فعلى أيدي هذه الممالك إن استمرت بعقليتها السائدة سيكون الهلاك الأخير كما هلكت ممالك الأندلس.


اقرأ/ي أيضًا: 

أصل المافيا حركة ثورية

الديموكتاتورية نظام حكم فلسطيني

الناتج المحلي من الحنان