26-مايو-2023
قصف غزة

خلال ثلاث سنوات ونصف، شن الجيش الإسرائيلي المصنف في المرتبة الثامنة عشر عالميًا، وفقًا لبيانات موقع  «Global Firepower» -المتخصص في رصد قوة الجيوش حول العالم- حروبًا خاطفة على قطاع غزة، قال إنها "عمليات عسكرية" تستهدف حركة الجهاد الإسلامي حصرًا. حملت "العملية" الأولى اسم "الحزام الأسود" واستمرت 48 ساعة، وأعقبتها عملية "بزوغ الفجر" واستمرت 66 ساعة، ثم جاءت عملية "الدرع والسهم" واستمرت 120 ساعة.

أول القواسم المشتركة بين "العمليات" الثلاثة هو أن رئيس حكومة الاحتلال (بنيامين نتنياهو في "الحزام الأسود" و"الدرع والسهم"، ويائير لابيد في "بزوغ الفجر") لم يجتمع مع المجلس الوزاري المصغر "الكابينت" للمصادقة على تنفيذ العملية، وهو أمرٌ اعتبره كثيرون مخالفة للقانون. وفي المرات الثلاثة بررت المستشارة القضائية للحكومة هذا السلوك بأن التقدير السائد حول هذه "العمليات" أنها لن تتطور إلى "عملية طويلة أو واسعة النطاق"، وبالتالي لا يحتاج الأمر إلى مصادقة "الكابينت".

إن اختيار توقيت عملية "الدرع والسهم" كان منطقيًا بالنسبة للاحتلال، وذلك تفاديًا لمعركة متوقعة في غضون أيام عنوانها القدس، وحتى لا يتكرر مشهد فرار المتطرفين اليهود في "مسيرة الأعلام" في عام 2021، لما لذلك تأثير معنوي بالغ على طرفي الصراع

فهم ردود فعل الخصم وتوقع نطاقها هي قاعدةٌ قادمةٌ من "نظرية اللعبة". وعندما يظن العدو أنه يجيد قراءة ردات فعل خصمه، فإن ذلك ينضوى على فرصة للأخير، ويبدو أن من قاد المعركة من جانب الجهاد الإسلامي أدرك ذلك، مطبقًا قاعدة "كن ثقيلًا كالجبل لا تخضع للاستفزاز"، التي هي أهم نصائح منظر الحرب الصيني صن تشو، إذ تم "فرض حالة من الشلل على نصف دولة قبل أن تنطلق رصاصة من غزة على مدار 36 ساعة"، كما قال العقيد احتياط رونين منليس، المعلق العسكري للتلفزيون الإسرائيلي، وهذا يعني أنه تحقق للجهاد الإسلامي بدون إطلاق صواريخ  ما تم تحقيقه تقريبًا على مدار "عملية الحزام الأسود"، التي دامت 48 ساعة وتخللها إطلاق 450 صاروخ.

في ما يتعلق بتوقيت العمليات الثلاثة، لابد من الإشارة إلى عنصر استراتيجي هام، وهو البعد الاستباقي. فبالعودة إلى ذاكرة الصراع مع الاحتلال، نستذكر عملية "النار الكُبرى" الإسرائيلية في عام 1968، المعروفة فلسطينيًا وعربيًا باسم "معركة الكرامة"، حيث يقول أمنون لبيكن شاحاك، رئيس أركان جيش الاحتلال، إن الجيش خطط لهذه "العملية" من أجل توجيه ضربة استباقية للفصائل الفلسطينية في الجانب الأردني من الأغوار واستنزافها، لضمان الهدوء خلال الاحتفالات الإسرائيلية "بيوم الاستقلال" -ذكرى النكبة- التي تحل بعد شهرين من توقيت العملية.

من هنا، يُمكن القول إن اختيار توقيت عملية "الدرع والسهم" كان منطقيًا بالنسبة للاحتلال، وذلك تفاديًا لمعركة متوقعة في غضون أيام عنوانها القدس، وحتى لا يتكرر مشهد فرار المتطرفين اليهود في "مسيرة الأعلام" في عام 2021، لما لذلك تأثير معنوي بالغ على طرفي الصراع، وتحاشيًا لاندلاع مواجهة داخل الخط الأخضر، فالقدس كانت صاعق التفجير لكل الانتفاضات التي أنزلت الفلسطينيين على نطاق واسع في أم الفحم واللد والرملة وبئر السبع وعكا وحيفا إلى الميدان. وبالتالي فإن الهدف من توقيت "عملية الدرع والسهم" هو حرمان الفلسطينيين من الزخم المعنوي من جهة، وتحقيق عنصر المفاجأة من جهة أخرى، فتم اختيار أقرب فرصة متاحة، طبعًا بعد نضوج الظروف الميدانية لشن العدوان وإنهائه قبل موعد مسيرة الأعلام. الاستنتاج هنا أن جيش الاحتلال قد يبادر إلى حربٍ استنزافيةٍ لأعدائه، من أجل حماية مناسبةٍ هامةٍ معنويًا.

القاسم المشترك الثاني بين العمليات الثلاثة، هو أن "إسرائيل" سعت إلى إنهاء العملية عبر الوسطاء، فصورة النصر تم التقاطها بعملية الاغتيال، وأي استمرار في الهجوم قد يقلب الصورة في أي لحظة إلى هزيمة. يكفي -على سبيل المثال- أن يُضرَبَ صاروخٌ مضادٌ للدروع جمعًا من الجنود ويؤدي لسقوط قتلى.

القاسم المشترك الثاني بين العمليات الثلاثة، هو أن "إسرائيل" سعت إلى إنهاء العملية عبر الوسطاء، فصورة النصر تم التقاطها بعملية الاغتيال، وأي استمرار في الهجوم قد يقلب الصورة في أي لحظة إلى هزيمة

هناك قاسمٌ مشتركٌ ثالثٌ في العمليات الثلاثة، وهي لحظة الصفر، وهذه اللحظة كانت محكومة بمنطق "الصيد الثمين". ففي "الحزام الأسود" كانت لحظة الصفر عند نضوج الظروف الاستخبارية لاغتيال بهاء أبو العطا. ولأن جيش الاحتلال رأى في ذلك العدوان نجاحًا، أعاد الكرة لكن بمضاعفة عنصر الاغتيال إلى قائدين بدل قائد واحد في "بزوغ الفجر"، ثم اغتيال ثلاث قادة بدل اثنين في "الدرع والسهم".

ويمكن القول إن هدفًا -غير معلن- للعمليات الثلاثة، يُشكل قاسمًا مشتركًا رابعًا بينها، وهو استنزاف العنصر البشري النوعي، لتنظيم صغير نسبيًا، فتعويض فقدان القادة الكبار حتى في الجيوش ليس أمرًا سهلاً، وهذا ما يفتح شهية جيش الاحتلال وجهاز "الشاباك" لتكرار ما فعلوه مستقبلاً.

أما بالنسبة لرئيس حكومة الاحتلال، فكما قال الرئيس الأسبق جهاز "الشاباك" يوفال ديسكين: "الاغتيالات هي حلم السياسيين. فهي تكثيف لجميع القدرات الاستخباراتية والقدرات الخارقة العمليات، التي ينفذها جنودنا المتفوقين في الجيش والشاباك، التي تنتهي إلى عمليات مشتركة تمنحنا القدرة على إلحاق الضرر، عبر ضربة دقيقة وقاتلة، فوريًا. هذا من دون شك، يداعب خيال الكثيرين، ويرمم الصورة الجماهيرية، ويمكن تسويقه على أنه إنجاز شخصي، كما يمكن التفاخر به خلال مؤتمر صحافي، وحتى أنه يساعد، مؤقتًا، على رفع عدد المقاعد في استطلاعات الرأي. ولكن، مؤقتًا فقط".