تقارير

من الدمى الناعمة إلى كتلٍ الركام.. ألعاب أطفال غزَّة بين الحياة والموت

4 أكتوبر 2025
من الدمى الناعمة إلى كتلٍ الركام.. ألعاب أطفال غزَّة بين الحياة والموت
أميرة نصَّار
أميرة نصَّار صحافيّة وكاتبة

أكوام رمل وطين بني، وعلب معلبات حديدية فارغة، وحجارة رمادية صغيرة تصطف فوق بعضها البعض تتخذ شكل طابون الخبز، هذه مكونات اللعبة التي فرضتها حرب الإبادة الإسرائيلية على الشقيقتين زينة ولين محمد، والتي تلعبانها بعد آذان العصر، على باب خيمتهما بعدما فقدتا ألعابهما وصديقاتها اللواتي شاركنها اللعب مقابل برج الظافر غرب مدينة غزَّة.

تجبل زينة، طفلة التسع أعوام، بأناملها البيضاء أكوام الرمل، فيما تتناولها أنامل شقيقاتها لين وجود، وتصنع منها شكل أقراص دائرية على شكل رغيف الخبز، وتقول جود بصوتٍ شجي: "يلاوين الخبز؟ بدنا نُخبز بسرعة قبل ما يخلص النهار"، تحاكي الشقيقات الثلاثة ما يعيشونه ويصنعون من واقع الحياة المعاشة في الحرب ألعابًا يومية.

في زمن الحرب والإبادة، باتت ألعاب الأطفال شكلًا آخر من أشكال التنفيس والصمود في وجه احتلال يقتل البراءة والطفولة على مدار الساعة.

خلال حرب الإبادة على قطاع غزَّة، ابتكر الأطفال ألعابًا من معاناتهم اليومية تحاكي واقع الحرب والسياسة والاقتصاد الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي عليهم.

تقاطع "الترا فلسطين" الطفلات الثلاثة أثناء اللعب وتسألهم عن الوقت المحبب للعب، فتجيب زينة بسرعة: "نجتمع أنا وشقيقاتي ونلعب مع أصدقائنا في الشارع بعد آذان العصر، بعد الانتهاء من مهامنا اليومية من الوقوف على طابور تعبئة المياه والتكايا وجلب الورق والحطب المُتعب والمرهق".

ترد لين بنبرة حزينة: "قبل الحرب كنا نلعب في بيتنا وفي غرفة ألعابنا بالعرايس والدمى، ونشاهد التلفاز ونلعب على سطح المنزل الألعاب الشعبية من لعبة الحجلة والغميضة (لعبة اختباء يقوم فيها أحد الأطفال بإغماض عينيه وعدّ ليعطي الآخرين وقتًا للاختباء، ثم يبدأ في البحث عنهم)، وشد الحبل (لعبة جماعية تتكون من فريقين يتنافسان على سحب الحبل بأكمله)".

بوجهٍ بائس تتابع: "زمان كان في عرايس، ونلعب بالرمل على البحر والشاليهات، هلقيت مافي إلا الشارع، وألعاب الحرب مش حلوة لكن بنسلي وقتنا فيها".

تقاطعنا أم حمزة، والدة الأطفال، وتقول: "لم أكن أفضل أن يلعب أطفالي بالشارع وكنت أقضي اليوم معهم بشكل منظم وموزع ما بين الدراسة واللعب داخل البيت ومشاهدة التلفاز".

تتابع الأم وتمسح بأناملها عرق جبينها بعدما نشرت الملابس على حبل الغسيل: "بالحرب تغيرت ألعاب الأطفال وساءت حالتهم النفسية، صباح اليوم كانت تسقط طائرات الاحتلال الإسرائيلي الصواريخ وتلقي المناشير الورقية التي تطالبنا بالنزوح، جمعها الأطفال وربطوها بالخيطان وصنعوا منها لعبة الطائرة الورقية".

تشاركنا العمّة فلة الحديث: "خلال نزوحنا في مواصي خانيونس، كان الأطفال يلعبون بالخرز، يقومون بفكه من الملابس وتشكيل أساور وسلاسل لبعضهم البعض". وتستكمل العمّة: "الأطفال زمان كانوا أطفال قبل حرب الإبادة، اليوم تحملوا أكبر من عمرهم وملامحهم باتت حزينة، شعرهم شائب، ووجوههم شاحبة، حتى الألعاب التي يلهون بها لا تسعدهم، بل تعكس واقع حياتهم البائس بالحرب".

في أسفل برج داوود، يجلس الطفل زين والعديد من الأطفال في عمره ما بين خمس سنوات إلى عشر سنوات يلعبون بالقلول (البنانير)، فيما يجلس بالقرب منهم مجموعة أطفال يحملون بأناملهم رزمة من الأوراق المالية المزيفة، وبالقرب منهم يلعب أطفال على امتداد الشارع لعبة "عرب ويهود" خلف المنازل التي دمرتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي.

"نزحنا من مخيم جباليا، لكن ألعاب المخيم بقيت معنا، من لعبة القلول (البنانير) طلعت فيهم هيهم." يصمت زين، ابن 7 سنوات، ويحدثنا بنبرة ثقة: "اللعبة هاي ولا أسهل منها، بنضع عددًا من الكرات البلورية في مثلث مرسوم على الأرض الرمل، وبنحاول إخراج أكبر عدد منها عن طريق التصويب بـ'القلّ' من خلال خط يبعد مسافة بعيدة شوية، والفائز يأخذ الكرات التي أخرجها". أضحك ثم أتابع: "أنا بفوز وبكون فرحان، وهاللعبة بتغير كل يومي."

تترك "الترا فلسطين" زين مع أصدقائه لاستكمال لعبهم، وتتوجه إلى الخط المحاذي لأطفال يلعبون لعبة "عرب ويهود" خلف الركام والدمار، متسلحين ببضعة حجارة وأسلحة خشبية وبلاستيكية بسيطة. يقف الطفل إبراهيم عماد (12 عامًا) صارخًا: "سلم نفسك، أنت رهن لنا".

لماذا تلعبون لعبة "يهود وعرب" في الحرب؟ تسأل "الترا فلسطين"، ليجيب: "في الحرب ما في إلا لعبة الحرب، هيك حياتنا وهذا واقعنا." بنبرة فخر يقول: "دائمًا ما أمثل دور الفلسطيني، الذي يدافع عن أرضه وبيته وعرضه، وفي هذه اللعبة يخسر اليهودي كونه لا يمتلك الطائرات التي تقصفنا!".

يتجمع الأطفال خلف إبراهيم، ويقول همام محمد، صاحب الشعر الأسود الناعم وبعيون متحجرة: "في هذه الحرب بنلعب مع بعض، وبنفرغ الي عايشينه واللي لسه عايشه، بحمل أصحابي الشهداء في اللعبة بعد ما نحرمت أحمل أبويا الشهيد، الله يرحمه، لما كنت نازح بالجنوب".

"ألعاب الأطفال خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزَّة ألعاب جماعية، وهي انعكاس طبيعي لما يعيشه الأطفال في الحرب، فالقضايا والواقع الاجتماعي الذي يُعاش تحول بطريقة ما إلى لعبة تعكس مظاهر عنف الاحتلال، وانهيار الاقتصاد، والتعليم، والتضامن العربي، وبالتالي انعكست على ألعابهم"، يقول عبد الرحمن إسماعيل، الصحفي الفني والموثق لألعاب الأطفال.

يتابع إسماعيل: "واقع الإبادة على مدار العامين فرض نفسه على يوميات الأطفال وألعابهم من مستوى العنف والثقافة والعلم والتربية، فالطفل الذي لم يذهب للمدرسة يتلقى تعليمًا وتثقيفًا في اللعب من فهم مفهوم الحرب، والخصم، والنفوذ، والهدنة، والجغرافيا، والتاريخ، والرياضيات، والعملة".

يُكمل: "الألعاب لها أثر إيجابي على الأطفال لفهم الواقع، وبات الطفل من عمر العشر سنوات يفهم ما يحيط به وذكي أيضًا في التعامل مع الواقع والتنفيس عن نفسه من داخل المحيط".

يؤكد الموثق لألعاب الأطفال بأن "الألعاب التي يلعبها الأطفال لا تمثل أنهم عدوانيون أو يعكسون أفكارًا أقرب للتطرفية، إنما انعكاس طبيعي للمحيط الذي يعيشون بداخله من مآلات الحرب وظروفها النفسية والاجتماعية والاقتصادية عليهم".

يختتم حديثه مع "الترا فلسطين": "اللعبة بات وسيلة للدفاع والبقاء والضحك وطريق للحديث عن الوجع بطريقة تناسب هيكلية الطفل وجسده وأفكاره ونفسيته، وحينما تنتهي الحرب يتشكل الطفل بتشكلٍ آخر من التحسنات التي ستنعكس على نفسياتهم من الشعور بالأمان والعودة للحياة الطبيعية".

في زمن الحرب والإبادة، باتت ألعاب الأطفال شكلًا آخر من أشكال التنفيس والصمود في وجه احتلال يقتل البراءة والطفولة على مدار الساعة.

الكلمات المفتاحية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل


اقتحامات الضفة الغربية

10 أيام من الاقتحام: الاحتلال يحوّل منازل في يعبد إلى ثكنات عسكرية ويُشرد العائلات

"منذ اليوم الأول للاقتحام، احتلّ الجنود ستة منازل بالكامل، والآن يسكنون فيها، بعد أن أجبروا سكانها على المغادرة وإبقاء الأبواب مفتوحة".


رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

64 عاملاً استشهدوا منذ بداية الحرب على غزة، منهم نحو 40 عاملاً منذ مطلع العام 2025. وهناك أكثر من 3 آلاف إصابة موثقة خلال العامين الماضيين


الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

يقف جهاز الدفاع المدني أمام مهمة تفوق قدرته، إذ يواجه نقصًا حادًّا في المعدات الثقيلة والآليات الميدانية، مما يجبر طواقمه على العمل بما تيسّر من أدوات يدوية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
تقارير

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
مقابلات

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن


مركز غزة: مليوني فلسطيني بالقطاع يعيشون كارثة إنسانية تتفاقم يوميًا مع اقتراب الشتاء
أخبار

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة

قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"
أخبار

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"

في 10 شباط/فبراير، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس نقل صلاحية صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى إلى مؤسسة "تمكين"، تحت عنوان "إصلاح النظام المالي" واستعادة المساعدات الدولية المعلّقة

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار