من انتظار العودة إلى نعش الغياب: وجع أمهات الشهداء في غزة
18 سبتمبر 2025
في سوق المواصي غربي مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، كان المكان يعجّ بالحركة، الباعة ينادون على بضاعتهم، والناس يتزاحمون بحثًا عن لقمة تسدّ رمقهم، وسط هذا الضجيج، كانت أم محمد سرور، امرأة ستينية مثقلة بالهمّ، تتنقّل بين البسطات والمحال الصغيرة تحمل حقيبة قماش صغيرة، وفي عينيها قلق دفين يلازمها كلما خرج ابنها محمد فجرًا ليصطف في طوابير المساعدات الإنسانية غرب رفح، على أمل أن يعود بكيس طحين أو زجاجة زيت أو كيلو أرز يسدّ جوع صغاره.
بينما كانت تختار بعض الخضراوات والبهارات، دوّى صوت هاتفها، رنينٌ حادّ اخترق ضوضاء السوق، كجرس إنذار لا يرحم. أسرعت ترد وهي تظن أنّه محمد يبشّرها بعودته: "السلام عليكم... محمد؟ أنت بخير يا ولدي؟"، لكن الصوت الذي جاءها لم يكن صوته، كان متقطّعًا مرتجفًا، وكأنّ الكلمات تُنزف نزفًا: "خالتي... أم محمد... تمالكي نفسك... محمد أصابته رصاصة قنّاص إسرائيلي... واستُشهد".
مكالمة ورسالة ولقاء أخير على الأكتاف.. أمهات غزيات يواجهن فواجع الحرب
كلمات الفاجعة
تجمّدت في مكانها، سقط الكيس من يدها، فتدحرجت حبّات البطاطس والبصل تحت أقدام المارة، لم تعد تسمع صخب السوق، وكأن العالم انسحب فجأة ولم يبقَ سوى تلك الكلمات التي اخترقت قلبها كسهم مسموم.
اقتربت منها، وأنا أرقب المشهد بعين الصحفي وقلب الإنسان، على استحياء في محاولة للتعرف على تفاصيل الفاجعة التي حلت بها، تمتمت الأم بصوت واهن، أقرب إلى رجاء مكسور: "شهيد؟ ابني؟ لا... قل إنك تمزح! قل إنه مصاب فقط... لقد وعدني أن يتوقف عن الذهاب! كيف يعود إليّ الآن محمولًا لا ماشيًا؟".
سقط الهاتف من يدها، ارتعشت ركبتاها، واستندت إلى لوح من "الزينقو" على جانب الطريق، هرع الناس إليها، بعضهم التقط الهاتف، وبعضهم أمسك بيدها يردّد: "اصبري يا خالة... اصبري"، أمّا هي، فرفعت بصرها إلى السماء، والدمع ينساب من عينيها بلا توقف: "اللهم إنّي أحتسبه عندك، ارزقني الصبر... فقد كان سندي وضياء بيتي".
ورغم هول الفاجعة، بدت الأم متماسكة، تستمد من إيمانها قوّة غريبة، أخبرتنا أنّ ابنها محمد خرج صباحًا خفية عنها، بعدما وعدها في الليلة السابقة أنّها ستكون المرة الأخيرة، إذ كان يذعن لإلحاحها المتكرر خوفًا على طفليه الصغيرين، أكبرهما لا يتجاوز الرابعة.
وجع ممتد
محمد، الذي عمل محاسبًا في شركة خاصة قبل الحرب، فقد مصدر رزقه تحت الحصار والقصف، فوجد نفسه مضطرًا لمواجهة رصاص الموت من أجل لقمة عيش أسرته، لم يكن هذا الفقد الأول في حياة الأم؛ فقد سبقه ابنها نضال الذي استُشهد في الأيام الأولى للعدوان بعد إصابته في قصف استهدف تجمعًا للمواطنين غرب خانيونس.
وبينما كنّا نحاول إتمام الحديث، وصل ابنها البكر محمود مع أشقائه وبعض أقربائهم، في تلك اللحظة انفجرت موجة بكاء جديدة من قلب الأم المكلومة، لتقطع كل حوار، إذ لم يبقَ أمامها سوى الإسراع نحو مستشفى ناصر، حيث ينتظرها جسد ابنها محمولًا على الأكتاف، بينما يظل وجعها ممتدًا، لا يهدأه عناق أخير ولا يطفئه سوى لقاء مؤجَّل في دار الخلود.
وكأن القدر يأبى أن يمنح هذه الأمهات لحظة سلام، فبينما كانت الدموع ما تزال حاضرة في عيون إحداهن، كانت أخرى تستقبل فاجعتها؛ لتتشابك الحكايات في مشهد واحد عنوانه استشهاد الأبناء ووجع الأمهات.
جرس الفاجعة
ففي صبيحة الرابع والعشرين من تموز/ يوليو الماضي لم يكن يومًا عاديًا على جيهان الأم عرفات التي فجعت باستشهاد طفلها حسن (16 عامًا) أثناء ذهابه للحصول على المساعدات في منطقة "موراج" جنوب مدينة خانيونس.
في ذلك اليوم، كانت تجلس جيهان أمام خيمتها في منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تستند إلى أحد الحجارة الكبيرة المتواجدة على جانب الطريق، وأذنها تصغي لكلِّ حركةٍ في الخارج، ترقب بعينين أثقلهما الأرق عودة ابنها حسن الذي خرج منذ الساعة السابعة صباحًا مع أقربائه وأصدقائه والجيران للحصول على المساعدات.
عند الرابعة والنصف، وبينما كانت الأم تستعد لصلاة العصر، دوّى الهاتف. ارتجف قلبها وهي تردّد: "اللهم احفظه"، وحين رأت اسم ابن عمّه، أيقنت أن مكروهًا وقع، فجاءها صوته المرتجف: "مرت عمي… حسن أُصيب برصاصة في رأسه". لكن الطريق كان محفوفًا بالمخاطر، وتعذّر وصول سيارات الإسعاف. فخرج أشقاؤه وأبناء عمومته في مجموعات، يواجهون الرعب والقلق، حتى عثروا بعد ساعتين على جسده مسجّى، يروي بدمه حكاية النهاية، نقلوه بجهد شاق، من سيارة متواضعة إلى دراجة هوائية، حتى وصلوا به إلى مستشفى ناصر، حيث كان المشهد فاجعًا تختلط فيه الدموع بالعجز، وتصمت الكلمات أمام المأساة.

الخبر الصاعق
أما والدته، فكانت آنذاك بين نارين؛ تنتظر اتصالًا يردّ إليها الأمل، وتتضرّع أن يأتيها خبر العثور عليه حيًّا، غير أنّ صرخة الحقيقة جاءت قاطعة كسيف مسموم، على لسان ابنها: "اصبري واحتسبي... ابنك حسن صار شهيدًا"، عندها لم ينطفئ البركان في صدرها، بل ازداد لهيبًا، فدموعها صارت صلوات متقطّعة، والفراغ الذي خلّفه رحيله صار جرحًا مفتوحًا في قلبها.
تحرّكت قدماها على غير هدى، كأنّ الأرض تجذبها قسرًا نحو المجهول. اندفعت تركض في الشارع، تتعثّر بعباءتها السوداء التي انسابت خلفها كظلّ الفجيعة، فيما صرختها تشقّ السكون الموحش:"حسن... يا بني... انتظرني، لم يحن موعد الوداع بعد"!. لم يكن يصل إلى سمعها سوى خفقان قلبها المذعور وصوت الأرض وهي تئنّ تحت وقع خطواتها اللاهثة. لم تنتظر سيارة تقلّها إلى المستشفى، بل مضت مشيًا على الأقدام تقطع الطريق الطويل، حيث تختلط الدماء بالأنفاس المكلومة.
لقاء أخير على الأكتاف
عند بوابة المستشفى بدا المشهد كأنه مشهد مهيب: أصوات متشابكة ما بين صرخات وعويل، أنين جرحى يقتربون من الموت، تكبيرات تخرج من حناجر مبحوحة، ووجوه مذهولة تحاول أن تستوعب الفقد. شقّت طريقها بين الأجساد المتزاحمة، تبحث بعيون دامعة عن وجهٍ تعرفه بين صفوف الشهداء.
وفي ركنٍ بارد من الغرفة، استوقفها نعش صغير مغطّى بكفن أبيض، وعلى طرفه بطاقة كُتبت بخط مرتجف: "الشهيد الطفل حسن هشام عرفات". تجلّت الفاجعة في تلك اللحظة؛ جثت الأم بجسدها المنهك، كأنها تحمل عن الأرض ثِقْلها كي لا تسقط. مدّت يدًا مرتجفة تزيح الغطاء قليلًا، فإذا بوجهه يلوح أمامها ساكنًا كالبدر، رقيق الملامح كأنّه غارق في نومٍ وديع. مرّت بأناملها على جبينه مسحةً يفيض منها حنان الأمومة، ثم طبعت على وجنته قبلة الوداع، قبل أن تُسدِل عليه غطاءه الملكي.
صرخة الحقيقة المرّة
في اليوم التالي سألت الأم أحد الجيران الذي كان برفقة حسن: "أكان يتألّم؟ هل أوصاكم بشيء؟" فأجابها: "ابتسم وقال: بلّغوا أمي أني وفيت العهد، وسأنتظرها عند باب الجنة". عندها انهارت بصمت، هامسة: "خرجتَ تبحث عن لقمة حياة لإخوتك، فعُدتَ بحياة أبدية".
جلست الأم الثكلى تروي حكايتها لـ"الترا فلسطين"، وقد أثقل الحزن ملامحها وارتجف صوتها بين أنين الذكرى، تتذكر ضحكات صغيرها، خطواته المتعثرة، ووجهه المضيء الذي خبا فجأة تحت غبار الفقد، قالت بحسرة: "رغم صغر سنّه، ورغم أن له شقيقين يكبرانه، أصرّ حسن على الذهاب إلى نقاط المساعدات الأمريكية. كنت أرفض، لكن إلحاحه كان أقوى من دموعي، والظروف القاسية وانعدام الغذاء أجبرانا في النهاية على الرضوخ. لم يكن أمامنا خيار آخر".
وتتابع بصوت يقطعه البكاء "قبل استشهاده بيومين فقط، قررنا منعه من الذهاب بعدما بدأنا نلمس بعض التحسن في الأسواق وانخفاض الأسعار، في الليلة الأخيرة، أخفيتُ حذاءه لئلا يخرج فجرًا، لكنه وجد وسيلة أخرى… أخذ حذاء شقيقه الأكبر وخرج مسرعًا. خرج جائعًا ليعود بالطعام… لكنه عاد ملفوفًا بالكفن".
ثم خفضت رأسها والدموع تنهمر:"في ذلك الصباح شعرتُ أن شيئًا سيحدث، كان قلبي يخفق على غير عادته. وما هي إلا ساعات حتى جاءنا خبر استشهاده، واليوم لم يبقَ لي منه سوى صورته التي تسكن ذاكرتي، وصدى كلماته الأخيرة. أما حضنه الذي كان يواسيني، فقد غاب إلى الأبد تحت ركام الفقد".
ابتسامة الوصية
لم يكن حسن طفلًا عاديًا، فقد ترك وصية بخطٍ مرتجف على ورقة مدرسية كتب فيها: "لا تبكي يا أمي إن عدتُ شهيدًا، فالشهادة حلمي، وإن رحلتُ فقولوا إن الله اختار لي الأفضل". كانت كلماته صاعقة على أمه التي لم تتصور أن طفلها ابن السادسة عشرة يستوعب معنى الرحيل والشهادة. واليوم، تقرأ وصيته كل ليلة بين دموعها، مرددة: "كان يعرف أنه سيرحل، لكنه ترك لي عزاءً يربط قلبي بالله". لم تفقد جسده فقط، بل غاب صوته وضحكاته التي كانت تملأ البيت حياة، لتبقى وصيته شاهدًا أبديًا على براءة قُطعت قبل أن تزهر أحلامها.
وتحولت نقاط توزيع المساعدات في غزة تحت إشراف الشركة الأميركية للمساعدات أو ما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" إلى مصائد للموت، ليُقتل المواطن الفلسطيني مرتين إحداهما بالجوع، والأخرى بالقصف والرصاص. وبدأت هذه المؤسسة عملها ضمن آلية إسرائيلية أمريكية لتوزيع المساعدات في غزة أواخر أيار/ مايو الماضي. وأقامت الشركة الأمريكية 4 نقاط توزيع رئيسية، 3 منها في منطقة تل السلطان في رفح جنوبي القطاع، وواحدة على محور نتساريم الذي يفصل شمالي القطاع عن وسطه وجنوبه.
كارثة إنسانية
تؤكد ضابطة الإسعاف في مركز خان يونس التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، مها الأسطل، أنّ الأسابيع الأخيرة شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الشهداء والمصابين الذين تتعامل معهم الطواقم الطبية، نتيجة الاستهداف المباشر والمتواصل من قبل قوات الاحتلال، ولا سيما في مناطق توزيع المساعدات الأمريكية، مشيرة إلى أنّ معظم الضحايا الذين يصلون إلى النقاط الطبية تتراوح أعمارهم بين (20-14 عامًا)، ما يعكس حجم الكارثة الإنسانية التي تطال فئتي الأطفال والشباب.
وتوضح الأسطل لـ"الترا فلسطين" أنّ طواقم الإسعاف في الميدان تواجه تحديات جسيمة، أبرزها تزايد أعداد الإصابات في وقت واحد مقابل محدودية سيارات الإسعاف، حيث تضطر الواحدة منها أحيانًا إلى نقل أكثر من خمسة جرحى أو شهداء في الرحلة الواحدة. كما يتعرض المسعفون بشكل متكرر إلى إطلاق نار مباشر وقصف متعمد أثناء أداء واجبهم، فضلًا عن صعوبة الوصول إلى أماكن توزيع المساعدات بسبب الطرق الوعرة والازدحام، مما يضاعف من تعقيد مهامهم.
مشاهد مؤلمة وموجعة
وعلى الصعيد الإنساني، تصف الأسطل مشاهد ذوي الشهداء بأنها مؤلمة حدّ الانكسار، خاصة حين تصل الأمهات للتعرّف على أبنائهن بين الشهداء والجرحى. وتقول إنّ وقع الصدمة يكون أعظم حين يكتشف ذوو الضحايا أنّ أبناءهم كانوا في مناطق توزيع المساعدات دون علمهم، لتتحول لحظة التعرف إلى فاجعة مضاعفة تترك أثرًا نفسيًّا بالغًا. وتضيف أنّ بعض الأمهات يفقدن أكثر من ابن في اليوم نفسه، ومنهن من ودّعن ابنهن الوحيد، في مشهد لا تصفه الكلمات.
وفي آخر إحصائية لوزارة الصحة في قطاع غزة، ارتفع عدد شهداء مراكز توزيع المساعدات الإسرائيلية-الأميركية بالقطاع الذين وصلوا المستشفيات إلى 2,513 شهيدًا، وأكثر من 18,414 إصابة، وأكثر من 200 مفقودٍ، وكلهم من المدنيين المُجوَّعين الباحثين عن لقمة العيش تحت الحصار والتجويع.
الكلمات المفتاحية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

10 أيام من الاقتحام: الاحتلال يحوّل منازل في يعبد إلى ثكنات عسكرية ويُشرد العائلات
"منذ اليوم الأول للاقتحام، احتلّ الجنود ستة منازل بالكامل، والآن يسكنون فيها، بعد أن أجبروا سكانها على المغادرة وإبقاء الأبواب مفتوحة".

رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين
64 عاملاً استشهدوا منذ بداية الحرب على غزة، منهم نحو 40 عاملاً منذ مطلع العام 2025. وهناك أكثر من 3 آلاف إصابة موثقة خلال العامين الماضيين

هشام المدلل لـ الترا فلسطين: الاحتلال دمر مستشفى الطب النفسي الوحيد في غزة ونواجه عجزًا في الأدوية
هشام محمود المدلل: أدت الحرب إلى فقد سكان قطاع غزة للأمن والأمان والفقد الجماعي للأحباب والممتلكات، ما خلق شعورًا عميقًا بالعجز لدى المتضررين

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة
قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

