29-أبريل-2017

الغربة ليست حالة تصيبك بمجرّد مغادرتك بلادك، بل هي اللحظات التي تشعر فيها أنّك لست في المكان الصحيح. شاشات التلفاز العريضة التي تبثُّ الأخبار في عيادة طبيب الأسنان أو صالات النادي الرياضي هي الأسوأ على الإطلاق، فهي بارعة في إيقاظ السؤال المخيف في قلبك: هل أنا في المكان الصحيح؟

ترتبط كلمة الموسم بالخير والبركة. وفلسطينيًا كل موسم وطنيّ هو خسارة لنا، لأننا نعرف أنّ قدومه يعني أن أحداثًا قاسية قد حدثت وإلا ما جاء

فبينما أنت تسابق الزمن وآلة الركض، تعرض لك فوكس نيوز أو (سي ان ان) صورًا من العراق، سوريا أو الضفة الغربية وقطاع غزة (كما يسمون فلسطين) الصور التي لن تكون يومًا جميلة، والأخبار التي لن تكون جيّدة أبدًا، تضعك في مواجهة مع واجبك اتجاه البلاد بينما أنت بعيد عنها، واجب كنت تظن أنّه يخصّك وحدك دون كل هؤلاء الأجانب الذين يشاركونك اللعب في الصالة. فهل هذا صحيح؟

تعكس لك الصور القادمة من واشنطن وتحديدًا صور المظاهرات سواءً الرافضة لسياسة دونالد ترامب العنصرية أو المنددة بجرائم النظام السوري وتنظيم داعش، أو الداعمة لحرية الشعب الفلسطيني، أن فكرة الواجب الانساني باتت هي الفكرة الأقوى التي يمكن من خلالها دفع الناس لتحمّل مسؤولياتهم الانسانية تجاه القضايا العالمية كافة، دون أن يُشترط على المتضامن ارتباطه الديني أو القومي أو العرقي مع الضحية.

 لقد باتت القضايا كلها إنسانية، بل إننا كثيرًا ما نلاحظ أنّ بعض القضايا قد تحظى بدعم متواصل لا يأس فيه ولا ملل من "الغرباء"، أكثر من الدعم الذي يقدّمه "أهلها". والقضية الفلسطينية خير مثال على ذلك. فبينما تقام سنويًا العديد من الحملات لدعوة الفلسطينيين لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية دون جدوى فإن الكثير من النشطاء والمتضامنين الأجانب ينظمون حملات لا تتوقف لمقاطعة إسرائيل، بل ومقاطعة وفضح الشركات العالمية الضخمة التي تدعم دولة الاحتلال، أو التي تملك خطوط إنتاج أو مصانع على أراضي المستوطنات الإسرائيلية. وهنا تتساءل: من أهل القضية حقًا ومن ضيوفها الذين يمررون يدهم على جرحها بين حين وحين؟

بالتزامن مع الرسالة التي وجهها الأسير مروان البرغوثي لنواب العالم عبر صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، والتي دعا فيها نواب العالم وبرلمانييه إلى دعم الإضراب الجماعي للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، والمعروف إعلاميًا بـ "إضراب الحرية والكرامة" ترتفع وتيرة العمل الوطني الفلسطيني وتنشط، حيث يساند الفلسطينيون البرغوثي ورفاقه الأسرى في إضرابهم من خلال حملات إعلامية مكثفّة وفعاليات شعبية واسعة.

كل إضراب للأسرى عن الطعام أو كل حرب جديدة على غزة هو موسم وطني فلسطيني، حيث يُخرج الفلسطينيون لافتاتهم الاحتجاجية القديمة الداعية لمقاطعة منتجات الاحتلال ليعيدوا ترديدها ونشرها من جديد مثل: "كرشك مش أهم من وطنك"، "يقتلوننا بأموالنا"، "لا تدفع ثمن رصاصهم"، "إذا كنت بتحب فلسطين، قاطع بضائع المحتلين"، وغيرها من الشعارات التي يتكرر استخدامها في كل مناسبة أو "مصيبة" وطنيّة لإقناع الشعب بضرورة مقاطعة محتله، ورغم بساطة الطلب ومعقوليّته إلا أن النتائج غالبًا ما تأتي مخيّبة للآمال. فشرارة الحماسة الوطنية سرعان ما تنطفئ والبضائع الإسرائيلية لا تختفي من السوق إلّا لتظهر من جديد، والحوار ذاته يتكرر بين الفلسطيني الذي لا يبالي بالمقاطعة لأنّه يبحث عن الجودة، والفلسطيني الذي يحترق غضبًا ليقنعه ببديهيات حبّ الوطن دون جدوى.

كم أسيرًا عليه أن يجوّع نفسه حتى ندرك جملة بديهية مثل "قاطع احتلالك"؟

وبينما يحدث كل هذا، نقرأ رسالة الأسير البرغوثي للعالم وكيف يحدثه عن الشعب الفلسطيني وعن حقوقه وأحلامه وعن الظلم الذي يتعرض له. وفي كلّ مرّة يتكرر ذكر الشعب الفلسطيني، نتساءل عن هذا الشعب الذي يستحق كلّ هذا الكلام المؤثر، وعن الفجوة بين الحلم الفلسطيني الذي يُحدث البرغوثي العالم عنه، والذي نؤمن أننا نستحقه، وبين الواقع الفلسطيني الذي يساهم بعض الفلسطينيين في زيادة تعقيده وسوئه، بحيث باتوا هم عقبة إضافية أمام حلم الحرية، وعبئًا كبيرًا وخطيرًا على القضية يجب محاربته أولًا للتمكن من التجهيز لمواجهة حقيقية مع الاحتلال الإسرائيلي.

غالبًا ما ترتبط  كلمة الموسم بالخير والبركة. أمّا فلسطينيًا فإنّ كل موسم وطنيّ هو خسارة لنا، لأننا نعرف أنّ قدومه يعني أن أحداثًا قاسية قد حدثت وإلا ما جاء. فحتى يجيء هذا الموسم، على الشهداء أن يسقطوا أو على  الأسرى أن يضعوا حياتهم على المحك بإعلان إضراب مفتوح عن الطعام.

هو موسم سيءٌ أيضًا لأنّه يجيء بعد كل هذا العناء ولكنّه لا يستمر طويلًا  فسرعان ما ينتهي كل شيء دون أن نحقق أي شيء، بل إن هذا الموسم بشعاراته وحماسته بات يأتي فقط ليذكّرنا كم نحن مقصرون في حقّ أنفسنا وقضيّتنا، فكم حربًا على غزة أن تعيش حتى لا نعود بحاجة إلى حملات تذكّرنا بضرورة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية؟ وكم أسيرًا عليه أن يجوّع نفسه حتى ندرك جملة بديهية مثل "قاطع احتلالك"؟


اقرأ/ي أيضًا:

شركات الاتصالات أهدت زبائنها لإسرائيل وهاجمتهم

يحدث تحت أنوفنا.. عن اللجوء الأفريقي إلى إسرائيل

بدّك تصير عسكري؟