11-أبريل-2019

صورة أرشيفية: الحاج أمين الحسيني خلال مشاركته في أحد احتفالات موسم النبي موسى | gettyimages

يتداعى المُتصوفة وعموم الناس في الجمعة الثانية من شهر نيسان/إبريل إلى برّية القدس حيث مقامُ النبي موسى، احتفالاً بموسمٍ شعبيٍ عامٍ عُرف على مدار عقودٍ طويلةٍ باسم "موسم النبي موسى"، وهو احتفالٌ شعبيٌ يُحشدُ له الناس كُل عامٍ في ذات المكان وفاءً لفكرةٍ مضى عليها نحو ألف عام.

ابتداع هذا الموسم مُرتبطٌ بفترة ما بعد التحرير الصلاحي لبيت المقدس، لحشد المسلمين أسبوعًا في محيط القدس

وموسم النبي موسى الذي تشهده برية القُدس على مقربةٍ من مدينة أريحا يُعتبر من أهم وأشهر المواسم الدينية في فلسطين، والاحتفال به تقليدٌ قديم وله طابعٌ عسكريٌ ذو بُعدٍ سياسيٍ كما يقول المؤرخ الفلسطيني عارف العارف: "فقد جمع السلطان صلاح الدين لهذا الموسم قُرى بني مالك وبني حسن وجبل القدس والوادية، وعززهم بجبل الخليل ونابلس الذين يرِدُون مُتعاقبين إلى القدس مع أسلحتهم ومؤنهم وذخائرهم استعدادًا للطوارئ".

اقرأ/ي أيضًا: معركة واد القلط.. الثورة تصطاد أحد "أبطال إسرائيل"

ويذكر المؤرخون بأن ابتداع هذا الموسم مُرتبطٌ بفترة ما بعد التحرير الصلاحي لبيت المقدس، لحشد المسلمين أسبوعًا في محيط القدس وهم مُستعدون بعدتهم وعتادهم وخيلهم وسلاحهم لمواجهة أي مطامع "صليبية" جديدة تسعى لاحتلال القدس وفلسطين، مُستغلين حشودهم الآتية إلى الحج للقدس في هذه الفترة حيث أعيادهم الدينية. 

ففي شهر نيسان كان الناس يتدفقون نحو المسجد الأقصى المبارك في حشودٍ ضخمةٍ تأتي من المدن والبلدات في شتى أنحاء فلسطين ومن بعض البلاد العربية والإسلامية، فيجتمعون في القدس وتضجُّ بهم أزقتها وشوارعها وساحاتها، فهم كالجيش الشعبي الزاحف، وتعلوا منهم الهتافات والصيحات والتكبيرات وترفع الأعلام والبيارق، ثم يسير الموكب بكل هذه الجموع يتزعمهم القادة ورجال الدين والأعيان نحو مقام النبي موسى على مقربة من الخان الأحمر بين أريحا والقدس.

 يتحرك الموكب وصدى هتافهم يهز أرجاء مدينة القدس:

يــا ربنـا بالفـاتـحـة  ..  والـرجـال الصـالـحـة

تجعل أعمالنا ناجحة .. وتنصر جيوش المسلمين

***

يـا ربـنا بـالبـقـرة .. وبالـرجـال العـشـرة

تهدم بيوت الكفرة .. وتعمّر بيوت المسلمين

 ويُجمع المؤرخون على أن موسم النبي موسى أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين لعبَ دورًا هامًا في شَحذ الهمم وتوجيه الجماهير نحو تبني القضايا الوطنية وحشد الناس وتعبئتهم لمراحل المواجهة المُرتقبة، الأمر الذي نقرؤه بوضوحٍ في هتافات المشاركين من قرى جنوب شرق نابلس التي كانت تُشارك في هذا الموسم:

اسمع مني يا عزيزي .. ليث الشام يهزم باريز

يلـعـن أبو الانكليزي .. والـثـوار هُـمّه الآمارا

فِـدا الـبُـراق والـحـرم .. لِنـا الحِمـى لنا العَـلـم

موسم النبي موسى أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين لعبَ دورًا هامًا في شَحذ الهمم

ولا يغيب المفتى الأكبر الحاج محمد أمين الحُسيني عن هذه الهتافات الحماسية التي تتناقلها الألسن وتصدح بها الحناجر، باعتباره رمزًا للحركة الوطنية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي:

حَـج أميـن ويا منصــور .. بسـيـفـك هـدينـا الـســور

حَـج أمـيــن عَ حـصـانُـه .. جـيــش الـعَــرب قُـدامـه

الله عَـــزه وعـانُـه .. الله عَـــزه و عـانُـه

المندوب السامي ع حماره .. جيش الصهيوني قدامه

الله ذلّــه وهـانُـه ..  الله ذلّــه وهـانُـه

ويظهر بوضوحٍ من خلال بعض الهتافات التي كانت تردّد وعي الجماهير للمعركة القادمة مع اليهود الصهاينة الذين بدأوا بالوفود لفلسطين عبر تشريع الهجرة وتسهيلها لهم من قبل الاحتلال البريطاني:

ياهودي بيخ بيخ .. حُطوا راسو بالطبيخ

ياهودي داده داده .. حُطوا راسه بالقعادة

قشّة قشّة لليهودي .. نحرق ذقنه لليهودي

وقد تجلى البُعد الجهادي لموسم النبي موسى بوضوحٍ في أحداثٍ عِدّة تسارع خلالها الفلسطينيون للمشاركة في القتال والمُباشرة بالفعل المُقاوم، فتحولوا من مُحتفلين يُرددون الهُتافات الحَماسية إلى فاعلين في النضال ومشاركين في الثورات والهبّات الشعبية، ولا أدل على ذلك من انتفاضة الموسم في العام 1920، والثورة الفلسطينية الكبرى في 1936-1939. فهاتان الهبَّتان وما شكلتاه من ركيزةٍ أساسيةٍ حول ذاكرتنا عن الوعي المُقاوم باعتبار انتفاضة النبي موسى أول ثورة على الاحتلال البريطاني، فيما كانت الثورة الكبرى آخر ثوراتنا على هذا الاحتلال، وكلاهما كانت بدايتهما من موسم النبي موسى في شهر نيسان.

ثورة النبي موسى عام 1920 كانت أول ثورة على الاحتلال البريطاني

ففي الرابع من نيسان عام 1920، وبينما كان موكب جبل الخليل يتحرك نحو ساحات المسجد الأقصى للبدء في الاحتفالات قبل التحرك إلى مقام النبي موسى، حاولت السلطات البريطانية إعاقة الموكب، ثم حاول بعض اليهود الاحتكاك بالموكب، وقيل حاول أحدهم خطف البيرق. وهُنا ثارت ثائرة الجماهير وتحولت أزقة القدس وشوارعها لساحات مواجهةٍ وقتالٍ بين العرب من جهة واليهود والقوات البريطانية من جهة أخرى، واستمرت الانتفاضة حتى اليوم العاشر من نيسان، وقد ارتقى نتيجتها شهداء وجرحى من العرب، وسقط قتلى وجرحى من اليهود، وتُعتبر هذه أول ثورة شعبية أو انتفاضة يخوضها الفلسطينيون ضد الاستعمار البريطاني واليهود الصهاينة.

اقرأ/ي أيضًا: في "واد عقربا".. الثورة تصطاد كبار جيش الاحتلال

لم تهدأ الأحوال في فلسطين فقد تجددت المواجهات بعد ذلك في أحداث ومواجهات كثيرة، كانت أبرزها ثورة الـ1921 وتبعتها ثورة البراق عام 1929، وهبة الـ1930، وانتفاضة الـ1933، ثم جاءت الثورة الكبرى في العام 1936.

كانت الجموع تحتفل في موسم النبي موسى في 15/نيسان/1936 وتردد الأهازيج الثورية والمدائح الدينية وتعلي من قولها:

عَ الصفين ع الصفين .. أحمد يا كحيل العين

أحمـد خاطبـه ربّـه .. وكانـت ليـلـة الاثـنيـن

***

يا زوّار مـوسـى .. سـيـروا بالتهـليل

وزرنا النبي موسى .. وعقبال الخليل

يا زوّار مـوســـى .. طحـتوا سالمين

يا زوّار مـوســى .. تـردوا ســالميـن

في تلك الأثناء وبينما كانت الجموع في ذروة حماسها في يوم الجمعة الثانية من نيسان في برية القدس، كان أربعة فلسطينيين على رأسهم الشيخ فرحان السعدي يُجيبون صَدى صوت: "مدد يا أولياء الله" ويكتبون صفحة جديدة في سجل الموسم الديني ذو الطابع العسكري في منشئه وسبب ابتداعه.

منع البريطانيون الاحتفال بالموسم سنة 1937، وكذلك منعه الإسرائيليون بين عامي 1967 و1993

كان ذلك على الطريق العام بين نابلس- طولكرم على مقربةٍ من نور شمس، حيث كانت الرصاصات الأولى تشق طريقها لصدور اليهود مُعلنةً بدء مرحلةٍ من الكفاح والنضال عُرفت لاحقًا باسم الثورة الفلسطينية الكبرى، واستمرت حتى نهاية العام 1939، وقد سارعت الجموع الشعبية في المدن والأرياف والبوادي للالتحاق بها.

تنبه الاحتلال البريطاني لعلاقة الموسم الديني الشعبي بتحريك الجموع وحشدها للمعارك، ولأجل ذلك منع الاحتفال بالموسم وأوقفه في سنة 1937. كما تنبه الاحتلال الإسرائيلي للأمر ذاته، فأوقف الاحتفال بالموسم من العام 1967 حتى العام 1993، ليعود بعدها موسم النبي موسى بطابعه الجديد الاحتفالي المُجرد من روحه التعبوية والنضالية التي لطالما كانت سمته وطبيعته.


اقرأ/ي أيضًا:

معركة الدريجات.. قاتلوا حتى نفدت ذخيرتهم

اغتيال عند باب الأسباط

عملية بيت ليد.. الأقسى في تاريخ جيش إسرائيل