ميتا…إلى اليمين دُر!
11 فبراير 2025
في بداية شهر كانون الثاني/يناير الحالي، ألقى مارك زوكربرغ خطابًا أثار جدلًا واسعًا حول تغييرات جذرية في سياسات وإدارة المحتوى على منصات ميتا. جاءت هذه التصريحات بمثابة مفاجأة للعديد من المراقبين والمؤسسات الحقوقية، خصوصًا في ظل الانتقادات المستمرة التي تواجهها ميتا بشأن سياسات إدارة المحتوى، ولا سيما في السياق الفلسطيني. ومع ذلك، لم تكن هذه التغييرات استجابةً للمطالب الحقوقية المتزايدة، بل جاءت في سياق التماشي مع التحولات السياسية في الولايات المتحدة بعد فوز دونالد ترامب برئاسة البلاد، بما يعكس تناغمًا مع أجندته السياسية المحافظة.
شملت أبرز هذه التغييرات إلغاء برنامج ميتا لتدقيق الحقائق في الولايات المتحدة، مع إعلان نيّة توسيع هذا القرار ليشمل العالم بأسره، واستبداله بنموذج يعتمد على "ملاحظات المجتمع" على غرار ما تعتمده منصة "إكس" (تويتر سابقًا). كما أشار زوكربرغ إلى تقليص دور ميتا في إدارة المحتوى وزيادة الحرية في النشر والتواصل، مع تقليل الاعتماد على الأنظمة الآلية لإدارة المحتوى. إضافة إلى ذلك، عبّر عن نيته العمل مع إدارة ترامب لمواجهة الضغوط الحكومية المتزايدة على المنصات الرقمية لإدارة المحتوى بشكلٍ أكثر صرامة. ناهيك عن قرار الشركة نقل فرق إدارة المحتوى من ولاية كاليفورنيا إلى ولاية تيكساس.
**
تسعى هذه التغييرات على نحوٍ واضح إلى تحييد المؤسسات الليبرالية ووسائل الإعلام الرئيسية التي كانت تتعاون مع ميتا في تدقيق الحقائق، وهو ما يراه ترامب وداعميه تحيّزًا ضد التيارات السياسية المحافظة واليمينية التي لا يُعبّر عنها عبر المؤسسات الإعلامية الرئيسية في الولايات المتحدة، وبالتالي فإنّ تحالف هذه المؤسسات مع ميتا ينعكس على طريقة إدارة الشركة للمحتوى على منصاتها.
على الصعيد الفلسطيني، تظل التغييرات في سياسات وإدارة المحتوى على منصات ميتا، على المحتوى الفلسطيني والمحتوى العنيف باللغة العبرية غير واضح تمامًا
في حين، يتضمّن تبني نموذج "ملاحظات المجتمع" تحولًا جذريًا، إذ يمنح التيارات السياسية الأكثر تنظيمًا وقوة القدرة على تحديد ما يُعتبر دقيقًا أو مضللًا، نظرًا لإمكاناتها في حشد الموارد البشرية وإنشاء مجموعات تعمل على تقييم المنشورات ووضع ملاحظات عليها. وذلك في الوقت الذي يُحيّد دور المؤسسات الإعلامية الليبرالية في تقرير ما يمكن نشره من عدمه على منصات التواصل.
علاوةً على ذلك، تعكس هذه التغييرات مقاومة متزايدة من منصات التواصل الاجتماعي تجاه القوانين والتنظيمات الأوروبية التي تهدف إلى كبح هيمنتها على المستخدمين داخل الاتحاد الأوروبي. يشمل ذلك ضغوطًا لإعادة صياغة التشريعات والسياسات التي ينظر إليها التيار المحافظ، بدعم من ترامب، بوصفها أدوات ليبرالية تعارض القيم المحافظة وتحد من تأثير اليمين السياسي على الصعيدين المحلي والعالمي.
تعزيزًا لهذا التوجه، قرّرت ميتا أيضًا نقل طواقم إدارة المحتوى من ولاية كاليفورنيا ذات المناخ التقدّمي، إلى ولاية تيكساس ذات المناخ السياسي المحافظ. في الوقت الذي علّقت فيه الشركة برنامج التنوع والشمول، الذي هدف إلى رفع "نسبة الموظفين غير البيض في الشركة"، تماشيًا مع توجهات ترامب ومناصريه الذين يرون بهذا النوع من السياسات تمييزًا ضد البيض.
على الرغم من أن التغييرات تمنح مساحة أوسع للحرية على منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن هذه الحرّية ليست بالضرورة متاحة للجميع بمعناها الحقوقي الشامل. بل يبدو أن الهدف الرئيسي هو تقليص الرقابة التي تُفرض على المحتوى المحافظ وإتاحة بيئة رقمية أكثر توافقًا مع رؤى التيار اليميني، على حساب الخطاب الليبرالي.
**
يحمل دونالد ترامب والتيار المحافظ الذي يمثله عداوةً واضحة تجاه شركات التكنولوجيا الكبرى، بما فيها منصات التواصل الاجتماعي، التي يتهمها بالانحياز للفكر الليبرالي ودعم ما يسميه "المؤسسة العميقة" في الولايات المتحدة على حساب التيارات المحافظة.
يزعم ترامب ومؤيدوه أن هذه المنصات تعمد إلى تعزيز الخطاب الليبرالي وقمع الأصوات المحافظة من خلال سياسات إدارة وتدقيق المحتوى. لذلك، فإنّ إحداث المنصات تغييرات بهدف إدماج القيم والخطابات "غير الليبرالية" التي يمثّلها ترامب إلى مفاهيم "حرّية التعبير" على الفضاء الرقمي، إنّما هي خطوة مصالحة، ليس مع ترامب فقط، وإنّما مع المناخ السياسي الجديد الذي سيسعى ترامب إلى تشكيله في الولايات المتحدة والعالم؛ الحلفاء قبل الأعداء.
في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020، تصدّرت منصات مثل "إكس" (تويتر سابقًا) وميتا الجدل بعدما صنفت العديد من منشورات ترامب على أنها مضللة، لا سيما تلك التي طعنت في نزاهة الانتخابات. وقد أُزيلت بعض هذه المنشورات بناءً على توصيات شركات تدقيق الحقائق التي تتعاقد ميتا معها. بعد اقتحام مبنى الكونغرس في أوائل 2021، علقت منصات مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام حسابات ترامب، معتبرة أنه استخدمها للتحريض على الاقتحام، مما صعّد حدة التوتر بينه وبين هذه الشركات.
ردًا على هذه الخطوات، أطلق ترامب منصته الخاصة "تروث سوشيال" لضمان استمرارية تواصله المباشر مع جمهوره وتجنب سياسات الرقابة التي تفرضها المنصات الكبرى. شخصيات شعبوية مثل ترامب تعتمد بشكلٍ أساسي على وسائل التواصل الاجتماعي كأداة فعالة للوصول إلى الجماهير، وتعزيز الدعم، وتشكيل الرأي العام.
دوليًا، يعتبر ترامب رمزًا للتيار الشعبوي المحافظ المناهض للمؤسسة التقليدية في الولايات المتحدة، والتي تُتهم بتوجيه سياسات البلاد الداخلية والخارجية. ويقف ترامب في مواجهة الخطاب الليبرالي التقليدي الذي يعبّر عن نفسه من خلال خطاب حقوق الإنسان، والبيئة، والتعددية الجنسية، والديمقراطية، وسيادة القانون، والتنوّع والتسامح مع الآخر، وتقليص الحدود الثقافية والمادية بين الدول، والفردانية مما يجعله في خلاف مع التوجهات الليبرالية للاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية الديمقراطية.
في المقابل، يدعم ترامب سياسات أكثر محافظة تتجاهل مفاهيم "الصوابية السياسية"، التي يعتبرها أدوات ليبرالية لتقويض القيم المحافظة. إذ يتبنى سياسة أكثر صرامة تجاه المهاجرين والتنوّع، ويركز على قيم العائلة، ويناهض التعدّدية الجنسانية، ويتجاهل قضية التغيّر المناخي، وحقوق الإنسان، ويتبنى سياسات اقتصادية أكثر حمائية، ولا يأبه بأسس العلاقات الدبلوماسية في السياسة الخارجية.
بينما أبدى إيلون ماسك دعمه العلني لترامب منذ إعلان ترشّحه، فإن مارك زوكربرغ تحرّك فور إعلان فوز ترامب وتبنى تغييرات استراتيجية لإرضاء الرئيس القادم، الذي يحمل رؤى وأجندة سياسية طموحة لتغيير البيئة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية.
**
على الصعيد الفلسطيني، يظل تأثير هذه التغييرات على إدارة المحتوى الفلسطيني والمحتوى العنيف باللغة العبرية غير واضح تمامًا. فعلى الرغم من أنّ سياسات منصات التواصل الاجتماعي الحالية مناهضة للرواية والحقوق الفلسطينية، لكن هناك مخاوف حقيقية من أن تؤدي التغييرات، بما فيها تقليل الاعتماد على النماذج الآلية في إدارة المحتوى إلى انتشار أوسع للمحتوى العنيف والمحرّض باللغة العبرية ضد الفلسطينيين دون رقابة كافية.
وحتى وقت إعلان هذه التغييرات، أي قبل تقليص دور النماذج الآلية في إدارة المحتوى، رصد مركز حملة (المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي)، من خلال مؤشر العنف ما يقارب 16 مليون محتوى عنيف وخطابات كراهية باللغة العبرية ضد الفلسطينيين على منصات التواصل الاجتماعي، حوالي 28% منها على منصات شركة ميتا، خلال أقل من عام ونصف.
هذه النسب، تثير المخاوف وبشكلٍ كبير، من انتشار أوسع لهذا النوع من المحتوى العنيف ضد الفلسطينيين على الفضاء الرقمي، والذي سرعان ما يتحوّل إلى عنف على أرض الواقع، كما أشار تقرير آخر أصدره مركز حملة ويحلّل فيه كيف سهّلت منصات التواصل الاجتماعي تنظيم ما أطلقت عليه الصحافة العالمية "بوجروم حوّارة" في بداية عام 2023.
وبالنظر إلى الإمكانات الكبيرة والموارد الواسعة التي تمتلكها المجموعات الداعمة لإسرائيل، فمن المرجح أن تتمكن هذه المجموعات من توظيف نموذج "ملاحظات المجتمع" بشكلٍ أكبر لصياغة ملاحظات تؤثر على المحتوى المنشور، مما قد يؤدي إلى تعزيز نشر المحتوى المضلل والمتحيّز ضد الفلسطينيين.
علاوةً على ذلك، فإنّ تأكيد مارك زوكربرغ أن المحتوى "الإرهابي"، وفقًا لتعريف الشركة غير الموضوعي، سيظل خاضعًا للإدارة المؤتمتة دون تغيير في سياسات ميتا المنحازة بشأن "المنظمات والأفراد الخطيرين" والمحتوى المرتبط بهم، يشير إلى استمرار السياسات التي تسببت في الجزء الأكبر من تقييد وإزالة المحتوى الفلسطيني. فقد عبّرت كثير من المؤسسات الحقوقية عن نقدها من طريقة تعريف المحتوى والمنظمات "الإرهابية"، التي لطالما مثّلت مجموعات مثل العرب والمسلمين والفلسطينيين على نحوٍ خاص بشكلٍ مفرط كما أشار مركز حملة في بيانٍ سابقٍ، دون اعتبار للسياق المحلي أو توخيّ الدقة وفي تغليب واضح للاعتبارات السياسية على المهنية والحقوقية. هذا النهج يُبقي الباب مفتوحًا أمام التصنيف المجحف للمحتوى الفلسطيني، خاصة في ظل عدم وجود تغييرات ملموسة تعالج شكاوى النشطاء الفلسطينيين ووسائل الإعلام، بشأن استهداف المحتوى الخاص بهم على منصات التواصل الاجتماعي.
ناهيك عن أنّ توجهات التيّار المحافظ واليمين المتطرف في الولايات المتحدة والعالم غير معجبة بالفلسطينيين والحقوق القومية الفلسطينية، وتتناغم عادةً مع دولة الاحتلال وروايتها وسياساتها تجاه الفلسطينيين، وليس من المتوقع أن تنعكس هذه التغيّرات على نحوٍ إيجابي تجاه الحريات الرقمية للفلسطينيين والمناصرين لهم حول العالم في الوقت الذي ستسعى فيه هذه الشركات لمنح مزيد من الحريّات بالمفهوم اليميني للكلمة.
**
تلعب منصات التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في نشر أو إلغاء الخطابات والروايات السياسية للتيارات السياسية أو الشعوب المختلفة، ولعلّ ترامب يدرك أكثر من غيره أهمّية هذا الدور في في هيمنة خطاب ما على خطاب سياسي آخر، ولذلك عمد إلى التحالف مع الرؤساء التنفيذيين لكبريات شركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة من أجل الدفع بأجندته السياسية خلال سنوات حكمه المقبلة. فهل ستنعكس هذه التغيّرات إيجابًا أم سلبًا على الشعوب المضطهدة، بما فيها الشعب الفلسطيني؟ الإجابة: الاحتمال ضعيف جدًا.
الكلمات المفتاحية

الأرض مقابل الاستسلام.. نتنياهو مبشرًا بـ"الشرق الأوسط الجديد"
ما لا يقوله نتنياهو صراحة، ربما يقوله سموتريتش، الذي تحدث بشكلٍ متكرر عن "العقاب" بالأرض

لجان التحقيق في "إسرائيل": أداة للشفافية أم وسيلة للتهرب؟
تواجه لجان التحقيق الرسمية في "إسرائيل" انتقادات بأنها وسيلة لتنفيس الضغط الشعبي. ورغم تشكيل لجان بارزة إلا أن محاولات عرقلة تشكيل لجان جديدة، كما حدث بعد 7 السابع أكتوبر، يثير التساؤلات

خطاب تبرير الإبادة الجماعية: ما هو؟ وما أبعاده؟
يتّصل خطاب تبرير الإبادة وإلقاء اللَّوم على الضحية بشكل وثيق بخطاب آخر لا يبتعد عنه كثيرًا وهو خطاب معايرة الناس بمشروع الإبادة أو التدمير

صور | رمضان في غزة بلا مساجد
استهدفت صواريخ الاحتلال المساجد في قطاع غزة بشكل مباشر، بما في ذلك قصفها على رؤوس المصلين، وتعرضت مساجد أثرية، مثل المسجد العمري الكبير، للتدمير، ووثّق جنود الاحتلال بهواتفهم إحراق المصاحف وتدنيس المساجد

المحكمة العليا الإسرائيليّة تجمّد قرار إقالة رئيس الشاباك مؤقتًا
أصدرت العليا الإسرائيلية أمرًا مؤقتًا بتجميد قرار إقالة رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، بعد تقديم التماسات من المعارضة وجمعيات مدنية، وقد منعت المحكمة تعيين بديل له حتى النظر في الالتماسات

الرئيس الأسبق للمحكمة العليا: "إسرائيل" على حافة الحرب الأهلية
حذر القاضي أهارون باراك من خطر انزلاق إسرائيل نحو حرب أهلية بسبب التوترات الداخلية المتفاقمة، ودعا إلى التهدئة والتفاوض لتجنّب العنف، منتقدًا محاولات إقالة مسؤولين كبار

بعد 48 ساعة من بداية العدوان.. نتنياهو طلب تدمير المنازل وقصف كل غزة
كشف الصحفي الإسرائيلي، ناحوم برنياع، عن حوار بين رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، طالب خلاله نتنياهو في تدمير قطاع غزة