تقارير

نازحو غزة ينتظرون عودة مؤجلة خلف "الخطوط الحمراء والصفراء" الإسرائيلية

15 أكتوبر 2025
نازحو غزة ينتظرون عودة مؤجلة خلف "الخطوط الحمراء والصفراء"
سفيان نايف الشوربجي
سفيان نايف الشوربجيصحفي من غزة

تلاشت فرحة النازحين في قطاع غزة بعدما أدركوا أن طريق العودة إلى بيوتهم لا يزال مغلقًا. فالمناطق التي كانت يومًا أحياءً مأهولة بالمدارس والمحال والأسواق، تحوّلت إلى مناطق "حمراء" وأخرى "صفراء" محظورة، تخضع لرقابةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ مشددة، ما جعل عشرات الآلاف من الأسر تعيش تحت حصارٍ جديد داخل وطنها.

 أصغر أطفالي وُلد هنا، لم يرَ بيتنا ولا شجرة التين التي كانت أمامه. كل ما نريده هو أن نقترب فقط، أن نرى البيت ولو من بعيد، أو نضع خيمةً بجانبه، حتى لو بقي مجرد ركام

ووفق الخطة الأميركية لوقف إطلاق النار، فإن المرحلة الأولى من الاتفاق تقتصر على انسحاب الاحتلال إلى "خطٍّ عازل" (الخط الأصفر) يتراوح بين 2.1 و4 أميال داخل غزة، مع الاحتفاظ بـ 55% من مساحة القطاع تحت سيطرته العسكرية المؤقتة. 

وفي المرحلة الثانية (الإدارة الانتقالية) من الخطة، يُؤجَّل الانسحاب من 40% إضافية حتى تشكيل قوةٍ أمنيةٍ دوليةٍ بقيادةٍ أميركيةٍ–عربية، مع الاحتفاظ بـ "حزامٍ أمني" (الخط الأحمر) يشمل 15% من غزة حتى التحقق من نزع سلاح حركة حماس، وهو تعديلٌ يطيل الجدول الزمني من ستة أشهر إلى عام.

انتظارٌ بلا نهاية

في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، تجلس فاطمة أبو سرور (33 عامًا) أمام خيمتها المهترئة التي نصبتها قبل أشهر فوق أرضٍ رمليةٍ قاحلة، تحدّق بعينيها المتعبتين نحو الشرق، حيث كانت تقع منطقة "معن" مسقط رأسها وموطن بيتها الذي دمّرته الحرب الأخيرة، وتقول: "كل صباحٍ أستيقظ على هذا الفراغ. لكن بصري يبقى معلّقًا هناك، حيث بيتنا. لا أريد شيئًا من الدنيا سوى أن أنام ليلةً واحدة بين جدرانه المهدّمة، حتى لو كانت بلا سقف. يقولون إن منطقتنا صفراء، لكن قلبي هناك".

وفاطمة واحدة من آلاف النازحين الذين ما زالوا عالقين في مخيمات النزوح رغم مرور أيامٍ على إعلان وقف إطلاق النار، فالمنطقة التي كانت تسكنها شرق خان يونس ما زالت خاضعةً لسيطرةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ مباشرة، وتُصنَّف ضمن "المناطق الصفراء"، أي المحظور دخول المدنيين إليها بذريعة "الاعتبارات الأمنية".

تضيف فاطمة، التي تعيش الانتظار بعدما عاشت القصف والنزوح: "الخيام أصبحت منازلنا الجديدة، لكنها بلا حياة. أصغر أطفالي وُلد هنا، لم يرَ بيتنا ولا شجرة التين التي كانت أمامه. كل ما نريده هو أن نقترب فقط، أن نرى البيت ولو من بعيد، أو نضع خيمةً بجانبه، حتى لو بقي مجرد ركام".

وتشير إلى أن زوجها قرّر المجازفة بالاقتراب من حيّهم المدمر بحثًا عن شيءٍ يخصهم من تحت الأنقاض: صورة، ملابس، أو قطعة أثاثٍ قديمة. تقول: "لكنه عاد بخيبةٍ كبيرة. لم يجد شيئًا، الحجارة وحدها بقيت شاهدةً على حياتنا السابقة، وكأنها تقول لنا: ما زال هنا أثرُ بيتٍ وإن غاب سكّانه".

ورغم الظروف القاسية، لا تفقد فاطمة إيمانها بأن العودة قريبة، حتى وإن طال الانتظار. تقول: "البيت يمكن أن يُبنى من جديد، لكن الذكريات لا تُبنى. أريد فقط أن أرى مكاني، أن أقول لأبنائي: هنا كنّا، وهنا سنعود. يبقى الأمل مثل شجرة التين التي كانت أمام بيتنا؛ قد تُقتلع، لكنها تظلّ تنبت في الذاكرة".

فرحة لم تكتمل

في المخيم ذاته، في منطقة المواصي غرب خان يونس، حيث تمتدّ الخيام كبحرٍ من القماش الأبيض على رمالٍ ملتهبة، يعيش فارس أبو جامع (38 عامًا) مع أسرته الصغيرة المكوّنة من زوجته وثلاثة أطفال، يشاركون فاطمة وجيرانهم المعاناة ذاتها.

نزح فارس من منطقة عبسان الجديدة شرق خان يونس في ذروة العدوان الذي طال المدينة، وكان يحصي الأيام مترقّبًا لحظة إعلان وقف إطلاق النار أملًا في العودة إلى منزله المدمَّر. لكنّ فرحته لم تكتمل، إذ اكتشف بعد الهدنة أن منطقته ما تزال تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة، وتُصنَّف ضمن "المناطق الخطرة"، الممنوع على المدنيين دخولها.

بعد اتفاق وقف إطلاق النار، قرّر فارس المخاطرة بالاقتراب من حيه القديم، وسار على قدميه حتى اقترب من مشارف عبسان الجديدة، وهناك وقف مذهولًا أمام مشهدٍ لم يتوقعه: "لم أتعرف إلى المكان. الشوارع اختفت، والمعالم تلاشت. لم أجد سوى ركامٍ وغبارٍ وحرائق صامتة. لم أستطع حتى تمييز موضع بيتنا".

حاول فارس أن يتقدّم قليلًا، علّه يستعيد شيئًا من بيته القديم أو متعلقاتٍ شخصية، إلا أن جيش الاحتلال أطلق النار تحذيرًا في الهواء لمنع أي اقتراب من المنطقة. يقول: "كنت أرى المنطقة من بعيد، مجرد كومةٍ من الركام، لكنّي لم أقدر أن أتقدم. شعرت كأن ذاكرتي تُمنع من الدخول أيضًا".

يعيش فارس اليوم في خيمةٍ تبعد نحو خمسة كيلومتراتٍ فقط عن منزله المدمّر، غير أن الوصول إليه يبدو مستحيلًا. يتابع: "بيتنا هناك، خمسة كيلومترات فقط، لكنها اليوم أطول من أي مسافةٍ في الدنيا. المنطقة مصنفة صفراء، والجيش ما زال هناك. نحلم فقط أن نعود، أن نبقى في المكان، نزرع شيئًا بجوار الركام أو نبني غرفةً صغيرة تؤوينا".

تقاطعه زوجته قائلةً: "كلما يسمع الأطفال أن وقف إطلاق النار تجدد، يسألون: هل سنرجع اليوم؟ لا يعرفون أن الطريق إلى البيت صار خطًا أحمر على الخريطة، وأن الحلم مؤجَّل حتى إشعارٍ آخر".

يقع منزل فارس على بعد نحو 1800 إلى 2000 مترٍ فقط من الحدود الشرقية لمدينة خان يونس، أي في نطاقٍ تخشى العائلات أن يبقى ضمن المنطقة الحمراء التي ينوي جيش الاحتلال الاحتفاظ بها وفق بعض التفاهمات الأمنية المرافقة للخطة الأميركية لإنهاء الحرب على غزة.

يقول فارس متوجسًا: "إذا بقي بيتنا داخل الخط الأحمر، فلن نعود أبدًا. نأمل أن تُدرَج منطقتنا ضمن المنطقة الصفراء التي يمكن العودة إليها بعد حين، حتى لو احتجنا إلى إعادة بناء كل شيء من الصفر. المهم أن نعود".

خيبة أملٍ في رفح

أما مدينة رفح الجنوبية فتعيش عزلةً كاملة، بعدما صنّفها جيش الاحتلال "منطقةً عسكريةً مغلقة"، يُمنع العودة إليها أو الإقامة فيها حتى إشعارٍ آخر. وهكذا، تبدّدت آمال عشرات الآلاف من النازحين الذين حلموا بالعودة إلى بيوتهم، ولو كانت ركامًا.

الخمسيني محمد أبو علوان، أحد أولئك الذين خابت أحلامهم، نزح من حيّ الشابورة وسط رفح في أيار/مايو 2024، وظلّ طوال عامٍ ونصف ينتظر اللحظة التي يعود فيها إلى منزله. يقول: "كنا ننتظر الهدنة بفارغ الصبر، علّها تكون بداية الطريق إلى العودة، لكننا فوجئنا بأن رفح كلّها ما زالت محرّمة علينا، وكأن الحلم انكسر بين أيدينا".

ويضيف: "لا حياة في رفح. كل شيءٍ مدمَّر، المنطقة التي كنت أسكنها محتها الحرب كأن زلزالًا هائلًا مرّ بها". ومع ذلك، يظلّ أبو علوان متمسكًا بالعودة إلى ما تبقّى من بيته ومنطقته التي عاشت فيها أسرته سنواتٍ طوال.

"خمسة كيلومترات فقط، لكنها اليوم أطول من أي مسافةٍ في الدنيا. المنطقة مصنفة صفراء، والجيش ما زال هناك. نحلم فقط أن نعود، أن نبقى في المكان، نزرع شيئًا بجوار الركام أو نبني غرفةً صغيرة تؤوينا"

ويكمل: "لا أدري إن كنا سنتمكّن من الرجوع إلى رفح، أو سنبقى هنا بلا مأوى في المواصي، نعاني برد الشتاء وحرّ الصيف. لا أطلب بيتًا، بل عودةً إلى أرضي، حتى لو كانت خرابًا".

لم تقتصر مأساة عائلة أبو علوان على النزوح، إذ فقد ابنه حسن في قصفٍ استهدف منطقة المواصي في نيسان/ أبريل الماضي، حيث لجأت الأسرة بحثًا عن مأوى. ورغم الفقد والألم، ما زال الأب يردد: "أريد فقط أن أدفن ابني قرب بيتنا في رفح، لا أريد شيئًا أكثر من ذلك".

وفي كل مساء، حين يهبّ برد البحر على خيامهم، يسأل الأبناء والدهم إن كانوا سيعودون قريبًا إلى مدينتهم، فيجيبهم: "ما زالت رفح بعيدة، رغم أنها لا تبعد سوى كيلومتراتٍ قليلة عن الخيام التي نعيش فيها".

الكلمات المفتاحية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل


اقتحامات الضفة الغربية

10 أيام من الاقتحام: الاحتلال يحوّل منازل في يعبد إلى ثكنات عسكرية ويُشرد العائلات

"منذ اليوم الأول للاقتحام، احتلّ الجنود ستة منازل بالكامل، والآن يسكنون فيها، بعد أن أجبروا سكانها على المغادرة وإبقاء الأبواب مفتوحة".


رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

64 عاملاً استشهدوا منذ بداية الحرب على غزة، منهم نحو 40 عاملاً منذ مطلع العام 2025. وهناك أكثر من 3 آلاف إصابة موثقة خلال العامين الماضيين


الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

يقف جهاز الدفاع المدني أمام مهمة تفوق قدرته، إذ يواجه نقصًا حادًّا في المعدات الثقيلة والآليات الميدانية، مما يجبر طواقمه على العمل بما تيسّر من أدوات يدوية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
تقارير

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
مقابلات

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن


مركز غزة: مليوني فلسطيني بالقطاع يعيشون كارثة إنسانية تتفاقم يوميًا مع اقتراب الشتاء
أخبار

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة

قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"
أخبار

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"

في 10 شباط/فبراير، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس نقل صلاحية صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى إلى مؤسسة "تمكين"، تحت عنوان "إصلاح النظام المالي" واستعادة المساعدات الدولية المعلّقة

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار