23-يناير-2017

لافتة في نابلس - تصوير علاء بدارنة

بضع لافتاتٍ باللغة الإنجليزية تخاطب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضعت في مراكز المدن الفلسطينية، ومسيراتٌ هزيلةٌ بالعشرات، هذا ما ظهر إلى العلن من سياق تهديدات السلطة الفلسطينية بالرد على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.

لغة اللافتات الإنجليزية الحادة لا يفهمها أغلب من رأوها، هذا بالإضافة إلى كونها غير موجهةٍ لهم، فهي تخاطب ترامب نفسه، ومن البديهي أن ترامب لم يقرأها. في المسيرات أطلق المتحدثون هتافاتٍ وشعاراتٍ وتهديدات، وأطلق ملثمون رصاصًا، هو أيضًا بالتأكيد لم يصل لترامب ولم يقلق أحدًا. يظل الإصرار على هذا الرصاص المطلق في الهواء من الأسئلة الوجودية الفلسطينية، خاصة حين يكون برعاية السلطة.

في المسيرات ضد نقل السفارة أطلق المتحدثون شعاراتٍ وتهديدات، وأطلق ملثمون رصاصًا، بالتأكيد لم يصل هذا لترامب ولم يقلق أحدًا

ملاحظاتٌ كثيرةٌ يمكن الوقوف عندها إزاء هذا المشهد وما حوله:

- لمن ترسل رسائل التظاهرات فلسطينيًا؟ هذه أزمةٌ تمتد منذ أمدٍ طويل، المخاطَب في هذه التظاهرات ملتبسٌ دومًا، والخبرة تقول إن الفلسطينيين حين يتظاهرون في داخل المدن فهم يتظاهرون ضد فلسطينيين آخرين، وليس ضد أي جهةٍ أخرى، مهما كانت الشعارات رنانةً والمخاطب فيها واضحًا، وسياق الأمر في حالة مظاهرات الأيام الماضية هو رفع العتب، القول بأن السلطة وفتح تحتجان على القرار الأمريكي، بل وبتحديد أكبر، أن السلطة "تفعل" شيئا.

اقرأ/ي أيضًا: ترامب.. وأخيرًا اللعبة القذرة دون وجه أنيق

- المساحة الشاسعة بين الخطاب التهديدي والفعل الممكن: وهذه باتت معضلة المعضلات، بل ومأزق السلطة التي لا تتمكن من نزع مفردات الوعيد المرعبة من اللغة الدارجة بين الناطقين والمتحدثين باسمها، هنالك من قال إنه سيفتح أبواب الجحيم، ومن قال إن السلم العالمي سيكون مهددا. وأخذًا بعين الاعتبار النقطة الأولى، يظهر أن هذه اللغة تفعل فعلاً عكسيًا دومًا، بمعنى أنهم يقولونها لفلسطينيين لا للجهة المحتج ضدها، ونتيجة انعدام إمكانيات الفعل، ينقلب الأمر إلى مادة للتندر. ولو أن لدينا مؤشرًا ما لقياس ثقة الفلسطينيين بهذا التهديد والوعيد الحاد، لتوصلنا لنتائج تداني نتائج الحرارة في هذه الأيام الباردة.

- ماذا تفعل الدبلوماسية الفلسطينية إزاء هذه الأزمة تحديدًا؟ طوال السنوات الأخيرة تعمل السلطة على زيادة ثقة الفلسطينيين بدبلوماسيتها، بل إن مرحلة الرئيس أبو مازن يمكن اختصارها بالجهد المستمر للقول إن "المعركة" الدبلوماسية هي الأهم، بل والوحيدة الممكنة، ولدى الفلسطينيين أدواتها، وهذا الخطاب يملأ بمفرداته كل مساحةٍ إعلاميةٍ صادرةٍ عن السلطة. وبالتغافل عن مساءلة إنجازات هذه الدبلوماسية الفعلية، وهذا المقال ليس مكانها، من المهم التساؤل ماذا تفعل اليوم إزاء شأن هو ميدان عملها الرئيسي، أي الضغط حتى لا تنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، باعتبار نقلها نهايةً واضحةً لأي من طروحات الحد الأدنى للحل السياسي للصراع؟ هل ثمة جهدٌ لبلورة موقفٍ عربيٍ يطالب ترامب وأمريكا بالكف عن هذا المسعى؟ هل ثمة حراك دبلوماسي دولي في هذا الشأن؟ تحديدًا في هذه المرحلة التي تبدو فيها النبرة المجابهة لترامب ومشاريعه عاليةً حتى بين حلفاء أمريكا أنفسهم، وفي الوقت الذي يعقب قرارًا أمميًا صوّر على أنه انتصارٌ دبلوماسيٌ كاسحٌ، وبعيد مؤتمر باريس. كل الظروف تبدو مواتية، فأين هو الحراك الدبلوماسي الفلسطيني الحقيقي؟

ربما تعطينا حالة الركود هذه إشارة إلى ما سوّق على أنه من منجزات الدبلوماسية الفلسطينية، حين جُيّرت إنجازات "أصدقاء فلسطين" من دولٍ عدةٍ وكأنها إنجازات الدبلوماسية الفلسطينية تحديدًا، والتي لم تتوفر أي صورةٍ واضحةٍ عن جهدها وإنجازاتها. حتى على مستوىً إعلاميٍ ينشغل وجوه الدبلوماسية الفلسطينية بالظهور على تلفزيون السلطة ومؤسساتها الإعلامية التي لا يشاهدها إلا الفلسطينيين، ولا يظهر حضورهم الحقيقي في وسائل الإعلام الدولية، كل هذا يبعث على أكثر من الريبة والتشكيك في حقيقة الجهود هذه.

- القيادة والشعب، الكل متفرج: يلاحظ في كل شأنٍ مركزه أمريكا وسياساتها أن القيادة السياسية تتحول إلى متفرجٍ كما عموم الناس، في انتظار أن تقرر أمريكا أو تفعل، وهذه نتيجة مراحل طويلةٍ من نزع كل مقومات الفعل، شعبيًا وسياسيًا، ومرد هذا هو المنطق التفاوضي لدى القيادة الفلسطينية منذ أوسلو، بمعنى أن تنازلاتها أو ما تقدمه في سبيل المكاسب من الطرف المقابل هو التخلي عن مقومات الفعل والمناورة، وباعتقادي فهذا المنطق التفاوضي لم يسبق له مثيل، تحديدًا في حال إضافة انعدام الضمانات الحقيقية اللاحقة لهذه الاتفاقات. بمعنى أنك تتخلى عن السلاح مقابل إدخال الأموال، ثم يوقف خصمك إدخال الأموال وأنت دون سلاح ولا تتمكن من فعل شيء، فأنت قايضت على وسيلتك الوحيدة في الضغط وتحصيل المكاسب، وهذا المثال فقط للتدليل على الحالة ككل، ويحمل التساؤل البديهي عن أية إمكانيات للضغط اليوم بعد كل هذه التنازلات؟ خاصة وأن سقوف المقايضة تنحدر بشكلٍ هائلٍ، امنعوا المظاهرات على الحاجز الفلاني مقابل أن نبقي الشارع القريب مفتوحًا، هذا هو المستوى اليوم، وحتى أسلوب تجييش المناصرين لمواجهاتٍ في بعض المناطق بات غير فعالٍ، وها نحن نراهم يتظاهرون في قلب المدن، ولا يبدو أن الأمور قد تتطور إلى تسيير مظاهرات تغض السلطة الطرف عنها وصولاً للحواجز الإسرائيلية وما يحدثه ذلك من ضجيجٍ إعلاميٍ ينبّه على خطورة الموقف واللعب الأمريكي بنار التوتر الأمني في الضفة.

- هل ثمة موقف عربي يمكن أن يتماهى معه الموقف الفلسطيني؟ نظريًا نعم، الكل يرفض نقل السفارة، ولكن عمليًا تنشغل الدول العربية بالبحث عن طرق التعامل مع هذه الإدارة الجديدة التي تربك الجميع، وبلا شك تبدو الملفات المشتعلة بالمنطقة أكثر إلحاحًا، بل وربما الأهم من كل هذا أن مراقبة 16 سنةً ماضيةً من حكم بوش ثم أوباما تظهر أن التدخل الأمريكي أو عدم التدخل لا يصب في مصلحة حلفاء أمريكا التقليديين من العرب، وأن المستفيد من الحقبتين هم من يظهرون بمظهر العداء لأمريكا، ولا تبدو هنالك أية إشارات إلى أن تغييرًا ما سيطرأ على هذه الحالة في ظل حكم ترامب، وقد يكون تفسير هذا الحال بسيطًا جدًا، فالعلاقة مع أمريكا لم تكن علاقة ضغطٍ ولا مناورة، بل استتباعٌ كامل، تجعل التضحية بالحلفاء ورقةً أمريكيةً لإبرام اتفاقات مع من يظهرون كخصوم. هذا الواقع يجعل التعويل على موقفٍ عربيٍ من الأمر غير فعّالٍ في هذه الفترة تحديدًا. ولعل خروج موقفٍ عربيٍ قويٍ مضادٍ لتوجهات ترامب سيكون مفاجأة ذات قيمة وأثر.

إن لم تنقل أمريكا السفارة إلى القدس، فلا بد من التوجه نحو ما حصلته إسرائيل من إدارة ترامب، وغالبًا  سيكون إطلاق الاستيطان بقوةٍ

أخيرًا، إن لم تنقل أمريكا السفارة إلى القدس، فلا بد من التوجه نحو ما حصلته إسرائيل من إدارة ترامب بدل هذه الخطوة ذات الضجيج المرتفع والأثر الرمزي، وهو على الأغلب سيكون إطلاق الموجات الاستيطانية بكل قوةٍ ودون روادع، ما يجعل القرار الأممي الأخير دون أي قيمة. الاستيطان أهم من نقل السفارة، وهو مستمرٌ وحقيقيٌ ويشكل الواقع كل يوم، وتختلق كل حين ملفات لتشتيت الانتباه عنه وتحويله لموضوعٍ خارج الضغط السياسي والشعبي، وكل هذا يختفي خلف عنوانٍ عريضٍ برّاقٍ ككل أداء ترامب، هو نقل السفارة.

هل من إجابةٍ شعبيةٍ خالصةٍ اليوم على هذا الواقع؟ نعم في الداخل في عرعرة وأم الحيران والنقب.

اقرأ/ي أيضًا: 

عرس إسرائيلي: آن أوان تصعيد الاستيطان والتهويد

السلطة الفلسطينية.. تجارة الوهم

نكون الأغلبية.. أو لا نكون!