30-سبتمبر-2019

في أحد مؤتمرات الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، اقترب مني رئيس الاتحاد جيم بوملحة، وقال لي: أنت من الفائزين الجدد، وسمعت أنك مع تحويل النقابة إلى نقابة مهنية وصحفيين مهنيين، قلت متفاخرًا: نعم، هذا شعار جيلي الصحفي الذي فاز.

اقترب مني أكثر وهمس في أذني: نريد صحفيين فلسطينيين مقاتلين أكثر. وذهب.

في الوقت الذي تجرأت فيه أنا وعدد من أبناء جيلي على "مهننة النقابة"، كنت أعرف أن نعيم في زمانه لم يكن لديه الوقت لكل هذا الترف

صعقتني الجملة، وظللت أحرك كأس النسكافيه وأتذكر نعيم الطوباسي، النقيب السابق الذي ترك قيادة النقابة لنا.

اقرأ/ي أيضًا: إعلام وزارة وليس إعلام وزير

طبعًا لم تغير إفادة جيم في مساري النقابي، ولكنها ظلت تذكرني بمسيرة طويلة كان فيها الراحل نعيم قائدًا حقيقيًّا لفكرة أن تكون صحفيًا ومقاتلاً باسم المهنة. تذكرت كيف كان يحدثنا عن عضوية فلسطين في اتحاد الصحفيين العرب، وكيف كان يشن معركة كاملة على التمثيل بلغةٍ بلديةٍ تمامًا، لغة لا "مهنية" ولا ما يحزنون، مثلما أغني أنا وجيلي، بل لغة تضمن موقعًا لفلسطين ومنظمة التحرير تحت الشمس، ففي تلك السنوات،لا مكان لأكثر من تجسيد الاسم والصفة الفلسطينية في كل الكيانات النقابية العربية والعالمية، وهذا كان شغل نعيم بلا كلل.

وفي الوقت الذي تجرأت فيه أنا وعدد من أبناء جيلي على "مهننة النقابة"، كنت أعرف أن نعيم في زمانه لم يكن لديه الوقت لكل هذا الترف، فنصف الجسم الصحفي في مرحلته كان من الأسرى المحررين، ونصفه الآخر ممن ينتظر، فعن أي سجل عضوية نطالب به نعيم وجيله، لكنه التحول وسنوات الانتقال من زمن إلى زمن، بنى كل جيل فكره النقابي من سياق المرحلة واحتياجاتها وملفاتها. وكان لنا زمن آخر.

أكتب هذا الكلام وفي ذهني أن أعالج صدعًا قد يفتش عنه أي باحث أو طالب جامعي في التاريخ غير الرسمي للنقابة، فثمة هوياتٌ نقابيةٌ تناحرت بين الأجيال للوهلة الأولى، لكنها ليست كذلك، بل كان لكل مرحلة أولادها وبناتها "العصاميون" الذين ظهر دائمًا أنهم اختلفوا كثيرًا وتفرقوا، وكلٌ منهم دفع الثمن، لكنهم حتمًا كانوا أوفياء وأنقياء، كلٌ من طرفه.

كان نعيم يدير بين الصحفيين مرحلة تحوّل المنظمة من زمن الثورة إلى الدولة، انعكس هذا على سجل العضوية وتعريف الصحفي وتعريف المهنة وتحديد الانتماء السياسي وبناء بنك أهداف النقابة. عايش نعيم فكرة أن يكون من النصف الصحفي الغاضب على السلطة، وعايش أيضًا النصف الآخر الذي يعتبر نفسه من كتيبة عرفات وجورج حبش التي تعمل بلا كلل في المطابع ودور النشر وإذاعات الموجة الطويلة والتلفزيونات والفضائيات المختلفة.

عايش نعيم فكرة أن تدبر موازنة النقابة من منظمة التحرير، وفي الوقت ذاته تحمي قرار النقابة من نفوذ وبطش المتنفذين، عايشت أنا وكثيرين معاركه الصعبة، وانكساراته وتشوش الصورة عنه بسبب أسئلة المرحلة الصعبة التي لم يستطع كثيرون الإجابة عنها. لكنه صمد فيها وقاتل حتى آخر لحظة له في مهماته الوطنية والنقابية والنضالية.

عايش نعيم فكرة أن تدبر موازنة النقابة من منظمة التحرير، وفي الوقت ذاته تحمي قرار النقابة من نفوذ وبطش المتنفذين، عايشت أنا وكثيرين معاركه الصعبة

كنت مع "بعض جيلي" نجلس بمنتهى الجدية لنضع خطة لنقل النقابة من المنظمة إلى التسجيل كجمعيةٍ خيريةٍ كي نصل مسار "نقابة مهنية"، واعترفنا أكثر من مرة أننا مع فصلها، وكنا نقول: ليقاتل المناضلون  وليكتب السياسيون بالدم، أما نحن الصحفيين، فالحبر يكفي لنا، وإزاء ذلك،كنت أرى مسرحًا من الاستغراب في وجه "أبو زيد" وجيله، وكنت أقدر حجم الدهشة والاستغراب، فهم أبناء فكرة التمثيل وحفر الاسم في العالم بالقصائد وبالكوفيات على الكتف، أو بأغلفة المجلات ومانشيتات الثورة. أما نحن، فكنا عكس ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: أستاذة من تل الحكايا

لا أتذكر هذا كي أقول من كان أفضل، ولا أريد أن أجيب، لكنه حنين وشهادة على مرحلة كانت تطلب من كل أجيالها، أن تتفق أو تفترق، تنتمي أو تثور، تلتزم أو تتمرد.

نعيم كان آخر النقابيين من زمن منظمة الحرير، وكان هذا الشخص الذي تراه دائمًا بلا سيارة متنقلاً في كل مؤسسات رام الله، مسائلاً عن إساءةٍ لصحفي، أو مطالبًا بحق لمؤسسة إعلامية، أو متلفعًا بكوفيته في جلسة شتاء قاسٍ يناقش فيها ممثلي فصائل المنظمة عن تمثيل نقابي أو تمثيل خارجي. كان حنونًا على الصحفيين الصغار، وجسورًا على أي متنمر على مجموعته، ممسكًا بتلابيب الأحداث من منظور لا يفهمه أحد إلا أولاد تلك المرحلة التي كان فيها عضو النقابة يكتب مقاله الأول بقلم رصاص في الزنزانة، وينتهي به الأمر جنديًّا لمنظمة التحرير في مطبعة في القدس أو مكتب صحفي في رام الله، ليجد نفسه يكتب على ورقةأوسع قليلًامن "كبسولة" الأسير.

لن أنسى ما حييت ليلة الانتخابات، عندما جاء في آخر الليل يتفقد النتائج، خائفًا على كتلة منظمة التحرير وأصواتها ومصيرها، واحتضانه لي وشغفه العائلي بي، ليس كصحفي، بل "كشقيق صديقه"، الذي بدأ يكبر ويحاول أن يحضر ويسجل.

يرحل "أبو زيد" اليوم عن الدنيا، يعود بسيارة إسعاف من رام الله إلى الخليل، إلى تراب قريته "الريحية"، يمر عن القدس التي قاتل من أجلها، عن بيت لحم التي اجتمع وشارك في مؤتمراتها، يبكيه أصدقاء وصديقات في كل مدن فلسطين، يترحم جيل كامل على رجل من ذلك الزمان، ستبقى صورته وهيئته وصداقته وحنانه وتفهّمه مفاتيح لا تُنسى عن "نقيب الصحفيين الفلسطينيين" الذي كان.

راحة هادئة في الأبدية أخي نعيم.

راحة هادئة في الأبد.


اقرأ/ي أيضًا: 

إذاعة سرية في رام الله

زمن إعلامي رديء

أخلاقيات طائرات درونز