18-يناير-2019

عفوية اللغة في الهتافات التي نسمعها في الحراك السياسي تكتنز بالإرث الاستعماري أو الثقافي أو الفني، والمتابع للهتافات التي رفعت ضد قانون الضمان الفلسطيني يرى تنوعًا زاخرًا فيها بدءًا بـ"هالقانون ليش ليش، وع المنارة وصلوا الجيش" حتى مقطع من أغنية أم كلثوم "إنما للصبر حدود".

اكتنزت فلسطين بانتفاضةٍ لغويةٍ كبيرة بدأت تأخذ طابعًا مدنيًا في مرحلة ما بعد أوسلو، وتطورت تلك اللغة مع تطور الأحداث والمجريات السياسية على الأرض، التي كانت آخرها مسيراتٌ تطالب بإلغاء قانون الضمان الاجتماعي.

الشعارات التي انتظمت في الصفوف لم تكن تنتقد بنودًا معينة في قانون الضمان الاجتماعي بقدر ما كانت ترفض النظام أو النسق الذي ينتج تلك القوانين

والمستمع لترديد الرسالة السياسية التي يحملها "الهتَّاف" -الشخص الذي يقع على عاتقه مسؤولية نقل الرسالة السياسية التي تتدحرج بخفة إلى المردد- يرى أنها تحمل دلالاتٍ وأبعادًا تسهم في صياغةٍ دلاليةٍ جديدةٍ في بنية الصراع، فلطالما تأثر الحراك السياسي الفلسطيني بإيقاع الهتافات الاستقطابية التي كانت ترفع في الميدان. ولم تنفصل هتافات الرافضين لقانون الضمان الاجتماعي عن تقديم لغةٍ دلاليةٍ مُحكمةٍ خرجت من قعر المعاناة، فالشعارات التي انتظمت في الصفوف بشكل تصاعدي، لم تكن تنتقد بنودًا معينة في قانون الضمان الاجتماعي بقدر ما كانت ترفض النظام أو النسق الذي ينتج تلك القوانين، فشعار "يلي بقولوا الضمان، يلا فرجونا الأمان"، يعبّر فيه المواطن عن "أزمة ثقة" أكثر من "أزمة تعديل قانون"، مع العلم أن الثقة في مؤسسات الدولة هي من أهم مكونات رأس المال الاجتماعي، وفقدانها قد يظهر على أشكال متعددة ونتائج غالبًا تكون غير متوقعة.

اقرأ/ي أيضًا: الضمان الاجتماعي يُشعل يقظة حقوقية مدنية فلسطينية

وفي خضم عملية الرفض وإعادة البناء اللغوي، أنتج المتظاهرون حصيلة لغوية ذات دلالةٍ مركبةٍ مرتبطةٍ بالإرث الاستعماري من جهة، والخذلان من مؤسسات الدولة التي تدير هذا الإرث من جهة أخرى، ونرى ذلك جليًا في عبارة "هالقانون ليش ليش، وع المنارة وصلوا الجيش"، وشعار "زوجة الشهيد لا ترث، لأن وفاته غير طبيعية".

ومن الملاحظ استحضار الثوابت الفلسطينية الشعبوية في أغلب التظاهرات، مثل القدس، الشهداء، الأسرى، ونلاحظ أن ترتيب "الهتّاف" للمطالب، يتجلى بصورة تراتبية تبدأ بالثوابت الوطنية المرتبطة بالاستعمار -التي لا ترتبط شرطًا بالثوابت التي تعززها السلطة-  و كأنه يرسم خارطة معرفية ويعيد بناء اللغة الخطابية السياسية لكن بأدواتٍ شعبيةٍ، وفق رؤيةٍ مناهضةٍ لخطاب السلطة، باعتبار التظاهرة ضد قانونٍ داخل مؤسسات السلطة بالأساس، وهو بذلك يؤسس أدواته المطلبية الخاصة خارج النسق المتعارف عليه.

غالبًا ما يكون الشخص "المغضوب عليه" في التظاهرة هو ضمير غائب، وذلك يعد جانبًا من مهارة الهتَّاف، في توظيف الضمائر التغيبية

ومن الملاحظ تظافر ضمير الغائب والمخاطب في الهتافات، وغالبًا ما يكون الشخص "المغضوب عليه" في التظاهرة هو ضمير غائب، وذلك يعد جانبًا من مهارة الهتَّاف في توظيف الضمائر التغيبية، لأن "الهتَّاف" يرغب بإنكار ذواتهم، أو التشكيك والتنديد بالأخطاء المرتبكة بحقه، فعندما يقول الهتاف: "الموظف بنادي لا تسرق حق ولادي" أو "ما بدنا عندك نستثمر، بدنا نبني ونعمر"، فالضمائر هنا تتضارب ما بين ضمائر أنا ونحن؛ التي تطالب بالتغيير بروح الجماعة، وما بين ضمير المخاطب الغائب الذي ينتهك حقه. وفي ساحة المعركة اللغوية تلك، يمكن نسج رسائل مطلبية سياسية تنطلق بين الجمهور، وتتدحرج من هتاف لآخر، حيث يمكن أن يتحول مستقبل الرسالة إلى مرسلها بكل عفوية.

وعلى مستوى دلاليٍ آخر تفردت به المسيرات المناهضة لقانون الضمان الفلسطيني، هو إعادة إحياء الإرث الثقافي الفلسطيني بتسمياتٍ تعيد ديناميكيتها وأثرها الاجتماعي الشعبي، فتسمية "شعيرية الضمان" مثلًا، جاءت لإعادة القيمة الضمنية لأكلة الشعيرية، باعتبارها أكلة التقشف إبان الانتفاضتين، ونذكر هنا عبارة الطاهي عندما قال في المسيرة: "ياما أكلنا شعيرية تحت الاحتلال، وزفتة تحت السلطة!".

وعلى الرغم من أن مصطلحاتٍ مثل "يسقط القانون أو الرئيس أو الوزير" هي غربية في سياقها البنيوي، إلا أن فلسطين كباقي الدول العربية استحدثت المعاني الكلاسيكية للهتافات، إلى معاني مكتنزة بالتجربة النضالية الخاصة، وهذا التطور أو الاستحداث لا يأتي إلا بوجود حرارة اللحظة الاعتراضية في التظاهرة نفسها، ونتذكر هنا المرأة الستينية عندما سألها المذيع: ليش أنت في المسيرة؟ فأجابت: احترّيت، فحنيت.


اقرأ/ي أيضًا:

هل أقنعت تعديلات الحلو لقانون الضمان المحتجين؟

قانون الضمان.. السلطة والفشل في اختبار الدولة

فيديو | الحراك: جهات دولية تقف خلف قانون الضمان