06-فبراير-2020

لا أعتقد أن صفقة القرن تستهدف في جوهرها الأمور المعلن عنها التي تحاول “إسرائيل” فرضها على الأرض، مثل ضم المستوطنات والقدس وإنهاء قضية اللاجئين، فهذه أمور نجحت الحكومة الإسرائيلية في فرضها منذ أوسلو ولغاية اليوم، بل تسعى "“إسرائيل”" من خلال الصفقة إلى بناء دولةٍ تسيطر مباشرة على المصالح الاقتصادية في العالم العربي وأفريقيا.

تسعى "إسرائيل" من خلال صفقة القرن إلى بناء دولةٍ تسيطر مباشرة على المصالح الاقتصادية في العالم العربي  وأفريقيا

مكانة “إسرائيل” الدولية تعززت خلال السنوات الأخيرة، وتحولت من حارس للمصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط إلى دولة ذات مصالح استراتيجية في المنطقة، مستخدمةً في ذلك الولايات المتحدة لتحقيق هذه المصالح الاستراتيجية. فدولة “إسرائيل” الجهة الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تمنح أية دولة شرق أوسطية شهادة حسن سلوك تؤهلها للحصول على جواز سفر لدخول المجتمع الدولي، كما هو حال السودان بعد لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني الانتقالي  عبد الفتاح البرهان مع  رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، حيث تسعى السودان من مثل هذه العلاقة مع “إسرائيل” للتحرر من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من خلال حصولها على حسن سلوك إسرائيلي يمهد لمنحها جواز سفر يمكنها من دخول المجتمع الدولي بعد سنوات من الحصار السياسي والاقتصادي الذي فرض عليها في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير.

اقرأ/ي أيضًا: هل خسرت إسرائيل شيئًا؟

الدولة الأخرى التي تسعى للحصول على حسن سلوك إسرائيلي هي "دولة الخلافة العربية"، المغرب، التي يحكمها "أمير المؤمنين" محمد السادس رئيس لجنة القدس. فالمغرب تُريد تطبيع علاقاتها الرسمية مع “إسرائيل” مقابل منحها حسن سلوك دولي يضمن لها اعترافًا أمريكيًا بالسيطرة على منطقة الصحراء الغربية.

“إسرائيل” ليست فقط البوابة الوحيدة للدخول إلى المجتمع الدولي، بل هي البوابة الوحيدة التي تستبعد منها الدول الأخرى من المجتمع الدولي، ومثال ذلك إيران التي تسعى “إسرائيل” لإخراجها من المجتمع الدولي وتصفها بدولة راعية للإرهاب، في إشارة إلى دعم إيران العسكري لعدد من الحركات السياسية المسلحة في منطقة الشرق الأوسط خاصة في لبنان والعراق واليمن.

كذلك “إسرائيل” هي الجهة الوحيدة في العالم التي يسعى كل مرشح أمريكي لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية أو عضوية الكونغرس فيها للحصول على مباركتها ليتمكن من الفوز في الانتخابات. وهي أيضًا الجهة الوحيدة التي لا يملك مجلس الأمن الحق باتخاذ أي قرار ضدها، شأنها في ذلك شأن الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.

“إسرائيل” هي الدولة الإقليمية التي تملك صفات الدولة العظمى، فهي تشهد طفرة نوعية في تكنولوجيا المعلومات والاقتصاد، خاصةً بعد اكتشافها النفط والغاز في البحر المتوسط، وتحولت في عشية وضحاها من دولة مستوردة للغاز إلى دولة مصدرة، خاصة إلى مصر والأردن، عدا عن الخدمات العسكرية التي تسعها إلى بيعها لدول اخرى في مجال الصناعات العسكرية وفي مجال الزراعة.

“إسرائيل” هي الدولة الإقليمية التي تملك صفات الدولة العظمى

باتت أغلب الحدود مفتوحة لطيران "إسرائيل" أو دبلوماسييها، فتارة كانت تقصف السودان وتارة أخرى العراق، ثم لبنان وفي أخرى سوريا، بينما يتجول دبلوماسيوها في الخليج والمغرب دون الحاجة إلى تأشيرات كتلك التي يحتاج الفلسطينيون للحصول عليها. وتسعى "إسرائيل" لتعزيز قوتها الإقليمية من خلال السيطرة على إقليم كردستان في العراق وأكراد سوريا وتشكيل حلف استراتيجي معهم، عدا عن تحالفها العسكري مع تركيا والفائدة التي تجنيها من القاعدتين العسكريتين الأمريكيتين إنجرليك وكورجيك في تركيا.

اقرأ/ي أيضًا: القدس وصفقة القرن

الفلسطينيون يصفون ما يجري بالتطبيع، لكن واقع الحال أعمق من ذلك بكثير. فالدولة العبرية تسعى لإقامة حلف مستقبلي مع دول الخليج العربي يجمع العقل الإسرائيلي مع المال الخليجي، وسينافس هذا الحلف الصين في استعمار أفريقيا لما في هذه القارة من موارد طبيعية، فهي تتوغل الآن في أثيوبيا وتسعى للسيطرة على مواردها الطبيعية، ودعمت بقوة إنشاء سد النهضة، ويتسع طموحها في أوغندا وكينيا ورواندا وغيرهن، هذا عدا عن اختراقها لدول المغرب العربي ومصر والسودان، فكل أهدافها اقتصادية وسياسية لخدمة مصالحا في المنطقة، بعد أن كانت تصنف في الخطاب السياسي الفلسطيني راعية مصالح  الغرب في المنطقة.

صفقة القرن الحقيقية لا تتعلق فقط بإنهاء القضية الفلسطينية، لكن إنهاء القضية الفلسطينية هو المدخل لتحقيق هذا الهدف الكبير. وقد جاءت الصفقة لتعبر عن تحولٍ في المعادلة التي كانت ترى في حل القضية الفلسطينية مفتاحًا للتطبيع  بين “إسرائيل” والدول العربية، ليصير إنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها بالكامل هو مفتاح التطبيع.

أصبحت الدول العربية هي من تسعى للتطبيع، فارتقى الطموح الإسرائيلي إلى حد تعزيز السيطرة الإسرائلية على هذه البلدان سياسيًا واقتصاديًا باعتبارها صاحبة شهادات حسن السلوك ومانحة جواز الدخول إلى المجتمع الدولي، وقد يتسع ذلك نحو السيطرة العسكرية على هذه البلدان بعيدًا عن فلسفة الاحتلال المباشر إلى سياسة إنشاء قواعد عسكرية إسرائيلية في مناطق عربية، على غرار القواعد العسكرية الأمريكية في الخليج والعراق، مثل المطار العسكري التي تسربت أنباء في الصيف السابق عن نيتها إقامته في السعودية.

ارتقى الطموح الإسرائيلي إلى حد تعزيز السيطرة على الدول العربية سياسيًا واقتصاديًا، وقد يتسع ذلك للسيطرة العسكرية على غرار القواعد الأمريكية

وقد تصل علاقات "إسرائيل" مع الدول العربية إلى حد توقيع اتفاقيات دفاع مشترك، فهذه الأفكار لم تعد تمس بالأمن القومي العربي على غرار ما كان عليه الحال في العقود السابقة. يعود الفضل في ذلك إلى السياسات التي اتبعتها السلطة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق أوسلو، فهي المفتاح السحري الذي دخلت منه “إسرائيل” إلى الدول التي كانت تصنف دولاً معادية لها، فالفلسطينيون من خلال مفاوضاتهم مع “إسرائيل” فتحوا ثغرة صغيرة عبروا منها إلى اتفاق اوسلو ولم ينجحوا بتجاوزه، لكن “إسرائيل” استغلت هذه الثغرة وذهبت من خلالها عميقًا، فنجحت في اختراق دول كانت تصنف صديقة للفلسطينين مثل الخليج وأفريقيا والهند والصين وغيرهما، وتعمل حاليًا على كسب ود دول أخرى وتحييد آخرين. وبدى هذا التحول  جليًا في آخر تصويت للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث غيرت بعض الدول من اتجاه تصويتها في الأمم المتحدة لغير صالح الفلسطينيين.

أعتقد أن الطموح الإسرائيلي للاستفادة من الثغرة التي فتحها لهم الفلسطينيون والدور الذي تقوم به الولايات المتحدة لا يقف عند هذا الحد، بل تسعى “إسرائيل” بعيدًا عن البهرجة الإعلامية لتكون العضو الدائم السادس في مجلس الأمن، بعد أن نجحت في عام 2018 في تولي منصب رئيس لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بتصويت دولتين عربيتين هما تونس ومصر.

ولا أستبعد أن يأتي ترشيح "إسرائيل" للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن من قبل حلفائها العرب، فالمعادلة تتغير بصورة أسرع مما يُتوقع، وتفوق ما نسميه تطبيعًا. بينما اقتصر دور الفلسطينيين في المعادلة الجديدة على تقديم المعلومات التي تخدم الدولة العبرية، وفشلوا في تغيير هذه المعادلة لما يخدم مصالحهم، بل فشلوا حتى في لعب دور عراب المرحلة الجديدة ليستفيدوا من امتيازاتها،  فقد كان الطموح الفلسطيني للأسف صغيرًا إلى حد لا يتجاوز تقديم المعلومات الأمنية،  وتعاملهم مع صفقة القرن لم يتجاوز أصواتًا ترثي القضية وتندب حظها، ولسان حالهم يقول "أخذونا لحمًا وألقوا بنا عظمًا".


اقرأ/ي أيضًا: 

ملاحظات سريعة على "صفقة" ترامب

إسرائيل لم تعد بحاجة إلى صفقة القرن

صفقة القرن: ضجة الشعار وخفة السخرية