04-يوليو-2019

كان صديقي الفلسطيني الكويتي وائل يجلس صبورًا أمامنا في سكننا الجامعي وهو يحاول أن يشرح لنا: "بصياغةٍ أخرى يا رفيق هل نحن شعبٌ مميز ونختلف في بنية تفكيرنا وفي وعينا عن باقي الشعوب  العربية؟". كنا نعضب ونثور: هل أنت مجنون؟ هل هذا سؤالٌ يسأله إنسانٌ طبيعي؟ طبعًا نحن استثنائيون ومختلفون عن الشعوب العربية، لقد ذقنا الويلات وضحينا بالشهداء واكتوينا بنار الاحتلال، ثم تسأل هل نختلف عن باقي الشعوب العربية؟

كان وائل يضحك طويلاً، وهو يسترخي على الكنبة ويحاول أن يقنعنا بأننا شعبٌ عاديٌ يشبه الشعوب العربية، فينا الطاغية وفينا الحر، فينا اللص وفينا الشريف وهكذا

كان وائل يضحك طويلاً، وهو يسترخي على الكنبة ويحاول أن يقنعنا بأننا شعبٌ عاديٌ يشبه الشعوب العربية، فينا الطاغية وفينا الحر، فينا اللص وفينا الشريف وهكذا، وكنا نهاجمه محاولين إقناعه بأننا شعبٌ كتب عليه أن يكون قائدًا وملهمًا وحكيمًا بحكم التجارب والخبرات التي راكمتها وتراكمها مراحل الكفاح الوطني الفلسطيني.

اقرأ/ي أيضًا: دعاء وشعار.. ثم يختفي الاحتلال

كان وائل يساريًا مثقفًا ينتمي إلى تنظيمٍ قوميٍ عربيٍ متطرف يؤمن بأن الطريق إلى تحرير فلسطين يمر من وعي الشعوب العربية، وكنا نرفض هذا النهج ونقول بأن تحرير فلسطين يبدأ من الشعب الفلسطيني العظيم الذي يعرف تمام المعرفة بأنه وحده من يستطيع أن يقود الأمة إلى انتصاراتها العظيمة القادمة.

كنا طلابًا فلسطينيين وعرب في السنة الثانية والثالثة في جامعة اليرموك الأردنية، وكان الزمن هو زمن الانتفاضة الأولى، كنا نغلي بالانتماء إلى فلسطين ونتوق جميعًا إلى العودة إليها لنساهم في صنع الانتفاضة التي اعتبر وائل أنها لن تنال الاستمرارية ما لم تُسنَد برافعةٍ شعبيةٍ عربيةٍ للتغيير القومي الشامل، ولتحرير فلسطين تحديدًا وتحرير الأمة العربية من طواغيتها وفاسديها. كنا نصرخ في وجه وائل صرخة واحدة، هذا كلام الحالمين المنفصلين عن الواقع، الشعوب العربية نائمةٌ وتكتفي بدعمنا بالقصائد والدموع، وهي عاجزةٌ عن حل مشكلاتها مع حكامها، وعاجزةٌ عن قيادة التحرير في بلدانها.

كان وائل يخرج من الغرفة في منتصف الليل غاضبًا شاتمًا وعينا المتخلف وضيق أفقنا التحليلي كما يقول، وكنا نلاحقه على سطح البيت بالضحكات واللعنات، وكان آخر ما يقوله أثناء انسحابه الغاضب: يومًا ما ستكتشفون الحقيقة وستعرفون أننا كذبةٌ كبيرة، وأن الحكمة والإلهام والقدرة على القيادة والطليعية صفاتٌ ليست حكرًا على الشعب الفلسطيني، وأن الشعوب العربية تتشارك هذه الصفات فيما لو سنحت لها الفرصة وتهيأت الظروف.

تخرجنا جميعًا من الجامعة، عاد كلٌ منا إلى بلاده، أنا إلى فلسطين، وائل إلى الكويت، محمود إلى مسقط، علي إلى العراق، مدحت إلى سوريا، أيمن إلى لبنان، وشريف إلى مصر. تواصلنا مع بعضنا البعض عبر الرسائل الورقية، كان وائل يزداد إصرارًا في رسائله على فكرة لاطليعية الشعب الفلسطيني، وكنت أنا مع أصدقائي العرب نواصل الهجوم عليه باتهامه بالرومانسية الثورية، وباللاعلمية في التحليل.

مضت السنوات ولم تنقطع حواراتنا مع وائل العظيم الذي نحبه، كان وائل قد ترك الكويت وقدم إلى الأردن ليتزوج ويعيش هناك ويصبح مقاولاً كبيرًا، وتأخذه مشاغل الأيام إلى هموم أخرى، لكنها لم تأخد منه مشاغله القومية، وظل ينظر إلى الشعب الفلسطيني نظرة المحب المعجب، ولكن لا يسمح للعاطفة بأن تعتبره الشعب الوحيد الحي على الأرض. ما حدث بعد ذلك لا يحتاج إلى الشرح، يكفي أن أذكر الأحداث التي وقعت لتفهم أيها القارئ العزيز أيهما على حق نحن أم وائل؟ أم أننا كلنا وقعنا ضحية التباساتٍ جغرافيةٍ مفاجئةٍ وحقائق صادمة، جرفتنا جميعا مع نظرياتنا الصافية البريئة إلى وديات السريالية.

صرت أنا معلمًا في مدارس رام الله، أحاول أن أحلل لطلابي كيف يمكن أن لا يتعلم شعبٌ عظيمٌ قدم كل هذه التضحيات مثل شعبنا من أخطائه

استشهد صديقنا علي ذبحًا على يد "داعش" في العراق.

استشهد مدحت صديقنا السوري في معارك طاحنة ضد النظام السوري.

استشهد أيمن صديقنا اللبناني ذبحًا على يد "داعش" في قريته التي تقع على الحدود اللبنانية السورية.

صار محمود صديقنا العماني مديرًا عامًا في وزارة الخارجية العمانية، وشارك في إجراءات استقبال نتنياهو ووزرائه في زيارته الأخيرة لعمان.

أما صديقنا شريف المصري، فقد دخل سجون السيسي مناضلاً ضد الطغيان وما زال هناك.

صرت أنا معلمًا في مدارس رام الله، أحاول أن أحلل لطلابي كيف يمكن أن لا يتعلم شعبٌ عظيمٌ قدم كل هذه التضحيات مثل شعبنا من أخطائه. وكيف يمكن أن يطلق النار على قدمه حين ينقسم على نفسه. وكيف يمكن أن يسمح للّصوص بأن يصبحوا السادة والقادة. والأدهى من ذلك، كيف يمكن أن يكون هناك حمقى ما زالوا يعتبرون هذا الشعب شعبًا طليعيًا.

رأيت وائل مراتٍ كثيرة في زيارتي لعمَّان، كنا نلتهم الحمص في مطعم أبو جبارة و نتحدث كثيرًا عن روايات "هاموراكي" الياباني، كنا نحبه معًا، ونعجب بنزعته التغريبية المنفصلة عن تقاليد بلاده. وكنا نتذكر بحماسة وضحك الطالبة الحلوة الممتلئة الغريبة التي كانت تخرج لنا نهدها الأيمن من نافذة غرفتها شبة المعتمة في سكن  الجامعة.

وفي آخر اللقاء قبل الوصول للجسر حيث كان وائل يوصلني بسيارته الفارهة إلى هناك، كان يهمس: الله يرحمهم، كانوا طيبين جدًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

أصل المافيا حركة ثورية

حسن يوسف والديراني.. عن رجال أعجزوا أمن إسرائيل

إذاعة "سرية" في رام الله