31-أكتوبر-2017

تبدّدت تقريبًا أجواء المناكفة التي رافقت عرض فيلم "القضية رقم 23"، للمخرج اللبناني زياد دويري، الذي توّج فيه الفنان الفلسطيني كامل الباشا، بجائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي. منذ ذلك الحين، ما انفكّ الفيلم وبطله من جهة، والمخرج من جهة ثانية، يواجهون سجالًا حول عرض الفيلم في قصر رام الله الثقافي.

 التجاذب حول مفهوم التطبيع أعطى مؤيدي ومناهضي عرض الفيلم، سلطة جديدة لإقصاء العموم في المساهمة بتحديد مفهوم التطبيع

تصاعدت وتيرة الجدل حول القضية، باعتبار الذين وقفوا ضد عرض الفيلم، أصحاب أفكار متطرّفة ورجعيّة، والمدافعين عن عرض الفيلم، بأنهم مدعين لحرية الرأي والتعبير، ويقفون إلى جانب السلطة ومشروعها. وكما لم ينفصل هذا السجال، عن الجدل حول إخفاق حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، في تقديم موقف متماسك، وتغيّر موقفها بين ليلة وضحاها.

تطرح هذه المقالة أن التجاذب حول مفهوم التطبيع في الأرض المحتلة، أعطى مؤيدي ومناهضي عرض الفيلم، سلطة جديدة لإقصاء العموم في المساهمة بتحديد مفهوم التطبيع، وهذا لا يختلف عن ممارسات سلطوية، أخّرت الكفاح الوطني من جهة، وأقصت الناس عن المشاركة في النضال ضد المحتل من جهة أخرى.  

يعي الفلسطينييون إلى حد ما مسألة التطبيع ومناهضته، ولكن المقلق في كل مرة تثار فيها قضايا التطبيع، هو عودة نفس الأفراد والنخب المؤيدة والمناهضة للتطبيع، إلى إثارة نفس الصراع حول المفهوم. في حالة الفيلم الأخير، انتزعت مجموعة من مناهضي الفيلم، سلطة تحديد مفهوم التطبيع، وتحت هذه السلطة، أقصيّت العديد من وجهات النظر حتى لأولئك من مناهضي التطبيع، المقلق هنا هو أن السلطة في فرض المفهوم، أتت برد فعل معاكس، وخلقت مساحة جديدة من الجدل حول مقاومة التطبيع

أسهمت حالة الجدل الدائمة حول التطبيع، في تفريغ قدرة الفلسطينيين، على صياغة مفهومٍ مقنع يعزز ويراكم الجهد المبذول ضد التطبيع. وعليه، ظلّ الفلسطينييون في ظل هذا المشروع الاستعماري، غير قادرين على إنتاج قصة مقنعة حول مسألة التطبيع ومناهضته. مهما تكن تلك الإشكاليات، تبقى السلطة الفلسطينية التي استهلت عمليًا الطريق منذ أوسلو لحجج التطبيع، من دون مراعاة لممارسات السلطة الاستعمارية بحق الفلسطينيين، أسوأ المدانين في هذا الإلتباس اللاأخلاقي.

نقطة الخلاف التي انتهت إليها قضية الفيلم، وغدت الآن شأنًا "لاأخلاقيًا" لكافة الأطراف، ستكون نقطة البداية لحالة مستمرة من الجدل حول التطبيع، لهذا تبقى هذه المسألة قائمة، نظرًا لعدم القدرة للوصول إلى حل جدليّة "ما هو التطبيع؟". في حالة مناهضة التطبيع، يبقى الصراع مع المستعمِر قائمًا، عند حصول جدل فكري ونقدي للوصول إلى مفهوم التطبيع، إلا أنه يتحول إلى بروباغاندا، في حال أصبح الهمّ الأبرز هو امتلاك سلطة فرض مفهوم محدد للتطبيع. في حالة الدويري، أسهم الجدل القائم، إلى إعادة إنتاج سلطة المستعمِر، وذلك بانتقال الجدل إلى صراع بين الفلسطينيين، بدلًا من توجيهه نحو المحتل.

تكمن المعضلة في ادعاء المؤيدين والمناهضين للتطبيع، بقدرتهم على تقديم صكوك (الغفران) الوطنية؛ فمن جهة يقمع مناهضي التطبيع أي إسهامٍ جديد حول المفهوم حتى وإن كان ضد التطبيع، ومن جهة ثانية، نرى مؤيدي التطبيع اللذين لم يشتركوا يومًا في النضال ضده، يمتلكون سلطة تبرير الامتيازات التي يحصلون عليها، بأنها مصلحة وطنية، وليست تسوية استعمارية. في حالة الفيلم، أسهم منطق القوة، في انتاج قناعة لا تعني مسألة التطبيع، بل أضحت المسألةُ صراعٌ همّه الرئيسي، تقديم صكوكٍ جديدة (سلطة) لما هو تطبيع أو غير تطبيع أو وطني أو حرّ أو حتى رجعي

لا شك أن التطبيع، كما إقصاء النقاش حوله مرفوضٌ بكافة أشكاله. في حالتنا، استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي، منح الجميع مساحةً لطرح حجم الإقصاء الذي يعانوه. وفي إطار النضال ضد التطبيع، دخل هذا الإقصاء في صميم إنكار حق الجميع في مناهضته، وهذه الحالة المعاكسة لن يجني فوائدها سوى المحتل. وبالتالي، يفشل أي مشروع نضالي في إنتاج أدوات نضالية جديدة إذا كان مرتكزًا على الإقصاء، ويصبح الجدل في مسألة التطبيع هنا موضوعًا استعماريًا، يقوم على البحث عن سلطة جديدة. الشيء الوحيد المؤكد هو إقناع الفلسطينيين في شتى مناطق الأرض المحتلة بأن مناهضة التطبيع هي ديناميكية شعبية وليست فئوية. يبقى إذا القدرة على فتح حوارٍ شعبي هو الطريق الوحيد من أجل مناهضة التطبيع وتجاوز سلطة الإقصاء، رغمًا عن حجم السجال الذي سيتبع هذا الحوار.


اقرأ/ي أيضًا:

هل نقاطع زياد دويري أم نقاطع أنفسنا؟

لماذا يفشل الإعلام الفلسطيني في حفظ السلم الأهلي؟

فيلم "قضية 23".. هل هناك دروس مستفادة؟