08-فبراير-2018

في الإجابة عن سؤال ما هي "الشّرقيّة"، يكتبُ كل من شنهاف، حيفر وموتسبي هالر، أنّ الهويّة هي في ذات الآن ظاهرة متخيّلة، وأيضًا ظاهرة حقيقيّة، بسبب كونها متخيّلة من نبع تجارب ثقافيّة معيّنة، فإنّها تأخذ حضورًا وتصير حقيقيّة، وتِباعًا لذلك، فإنّ الشّرقيّة ليست بظاهرة تُعرَّف كنقيض للأشكنازيّة، بل ظاهرة تحتوي من بين ما تحتويه، على الأشكنازيّة، من منطلق علاقات الاحتواء، الإقصاء، التقليد والتذويت.

اليهوديُّ الشرقيّ، اصطدم بحاجزٍ نفسي ثقافيّ هوياتيّ، تُشكِّلهُ هويّة أشكنازيّة أوروبيّة المركز، لَها افتراضاتها المُسبقة واعتقاداتها القويّة حول اليهوديّ الشّرقي

هكذا يُعيد الشّرقيّ اليهوديّ، اليهوديّ – العربيّ، السفاراديم، يهوديّ الشّرق الأوسط، سُؤاله عن شرقيّته، إلى نقطة البداية في علاقته مع المكان والزّمان أوّلًا، ومن ثمّ في علاقته مع مكانٍ وزمان مُحدثَين ثانيًا. المكان والزمان الأوّلين، الأصليين، هُما المكان العربيّ، والزمان العربي، لجغرافيا ما زال يعيش في آثارها الماضية، وفي آثارها المتجددة، إمّا في علاقة عدائيّة مُصطنعة أو حقيقيّة، مع العربيّ – الفلسطينيّ، أو في الأثَرِ العربيّ الذي ما زال حاضرًا مُستمرًّا في اليهوديّ الشرقيّ، ويُشكِّل بالنّسبة له ملجأً عند اغترابهِ في المكان والزّمانِ المحدثينْ، وأحيانًا، يُشكِّل مخزنًا في اللاوعي لحالة شعوريّة انفصاميّة بالهويّة.

اقرأ/ي أيضًا: إيليت "غوبلز" شاكيد.. البروباغندا مستمرة!

ما قَبل العودة؛ اليهوديّ الشرقيّ يعود إلى أرض إسرائيل، وتكون العودة نفسها، كاستعارة تحملُ معنيينْ. الأوّل: عودةُ اليهوديّ إلى التّاريخ. الثّاني: اختِباءُ العربي الذي فيهِ في التّاريخْ – اللاوعي، في داخل هذا اليهوديّ. وفي قراءة سريعة لشعر حركة عرص بويتيكا اليهودية الشرقية، نجدُ علامات هذا الاختباء – الكبت للعربيّ في اليهوديّ، الذي حدثَ عند العودة الأولى، يظهرُ كما يَظهرُ العُصابُ في أيّ مريضٍ نفسي، يصلُ إلى مرحلة التحوُّل ويصطدمْ بانعدامِ القدرة على التّماهي مع ما يجبُ عليهِ أن يتماهى معهُ حتّى يمرّ بالتحوّل هذا سليمًا معافى.

اليهوديُّ الشرقيّ، اصطدم بحاجزٍ نفسي ثقافيّ هوياتيّ، تُشكِّلهُ هويّة أشكنازيّة أوروبيّة المركز، لَها افتراضاتها المُسبقة واعتقاداتها القويّة حول اليهوديّ الشّرقي. هي نفسها الهويّة الأشكنازيّة، التي قامت بالانفصال عن صُورة اليهوديّ الأوروبيّ الضَّعيف الخائف، والتي عملت على تأسيس صُورة اليهوديّ الجديد القويّ الحديث، الجُنديّ الأكثر تفوّقًا، والدَولة الأكثر حداثة. هي نفسها الهويّة الأشكنازيّة، التي تمتلك افتراضات مُسبقة حول الهويّة اليهوديّة الشّرقية. الخائفة، المرتعبة، التي تعيشُ بين ظهرانيّ العربْ، ممحوّة، عاجزة، واليهوديّ المَوبوء، المُشوّه، الذي يحتاجُ إلى إعادة تأهيلٍ حتّى في يهوديّته نفسها، وشكل هذه اليهوديّة.

إلّا أن هذا الحاجز لم يكن مجرّد حاجز نفسي، بل امتدّ إلى أن يكون حاجزًا بيولوجيًا في بعض الأحيان، وفي أحيانٍ أخرى، كان حاجزًا متعلِّقًا بسؤال استحقاق "اليهوديّ الشرقي"، المواطنة بشكل طبيعيّ. فقد جرت محاولات بين حينٍ وآخر، إسرائيلية، لتحديد من هو اليهودي عن طريق البيولوجيا تحديدًا، التي استثنت اليهود الشرقيين من بحثها هذا، في افتراض ضمنيّ بعبثيّة البحث عن مثل هكذا نسلْ يهودي واحد، لدى اليهود الشرقيين.

اقرأ/ي أيضًا: عندما طلب بيريز الجنسية الفلسطينية!

منذُ لحظَةِ الوصول فإنّ اليهوديّ الشّرقي يجدُ نفسه، وقد عادَ إلى أرضِ إسرائيل، قَد وُضع على أقصى الهامِشِ بمنطقِ العزلِ والفَصل والتأهيلْ. والتأهيل؛ تأهيلٌ هويّاتي، حضاريّ، إنسانيّ. والعزلُ، عَزلٌ جغرافيّ وإنساني. والفَصلُ، منذُ لحظة الوُصول، يُؤسس لفَصلٍ وانفِصامٍ دائمين، في عقلهِ. فصلٌ عن المكان والزّمان، اللذان كانا يجب أن يكونا طَبيعيّانِ، بل وإلى حدٍ ما، فإنّ شعوره بالإنتماء إلى هذه الأرض في رحلتهِ إلَيها، كان قَد سَبَقَ وصوله إليها. وهو الشُّعور نَفسهُ، الذي يُورثه صدمة الوصول، صدمة العزل والفصل.

يعيدُ اليهوديّ الشّرقي، حينها تَركيب الهويّة من جديد. هُويّة، كانت قد كبتت نفسها، عربيّة يهوديّة. وأخرى الآن، يجبُ أن تكبت نفسها من جَديد وأن تُكيّف نفسها بصورةٍ أو بأخرى، حتّى تستطيع تجاوز الصّدمة. ويحصلُ كما عندَ مريضِ الُعصاب، أن يختارَ الإنسانُ الصّمت في حالاتٍ كهذه. وقَد اختارَ اليهوديّ الشّرقيّ الصّمت، حتّى عندما قام بالاحتجاجْ.

  لا تُشكّل لا الهويّة العربيّة في إسرائيل، ولا الهويّة اليهوديّة الشّرقيّة تهديدًا حقيقيًا وملموسًا للمؤسسة الإسرائيليّة

فالشّعر الذي في حركة "عرص بويتيكا"، شعر احتجاجيّ، غاضب، ويُحرِّكهُ لفظًا وكلامًا، الغضب وحده، والشعور بالإهانة والاغترابْ. الغضب ليس ما يُشكِّل الإنسان، بل الغضب هو ردّة فعل الإنسان على عدم قدرته على أن يَكون ممّا هو مُشكّلْ. فإلى حدٍ ما، فإنّ شعر حركة عرص بويتيكا، هو بصورةٍ أو بأخرى، جُزءٌ لا يتجزأ مِن طَبيعة الهويّة المؤسساتيّة لدولة الأشكناز في إسرائيل. المؤسسة القادرة على امتصاصِ الغضَبْ، بل والسّماح به. تمامًا كما تُعاملُ هذه المؤسسة الأقلّية العربيّة في إسرائيل وتسمحُ لهُم بالآذانِ في الكنيست، "تستطيعُ الصّراخ إلى النّهاية، لكنّ شيئًا لن يتغيّر". لا تُشكّل لا الهويّة العربيّة في إسرائيل، ولا الهويّة اليهوديّة الشّرقيّة تهديدًا حقيقيًا وملموسًا للمؤسسة الإسرائيليّة. وعلى الرّغم من الفُروقاتِ بَين الأمرين، والفُروقات الجوهريّة بَين المسألة العربيّة والمسألة الشّرقيّة في إسرائيل، إلّا أنّ منطق الاحتواء هو منطق واحدْ.

اقرأ/ي أيضًا: علم الجينات يوجه الضربة القاضية لإسرائيل

وبهذا المنطق، فإنّ الهويّة اليهوديّة الشّرقيّة، كما هي بطَبيعتها، ستبقى مُحتجزة في اللاوعي اليهودي الشّرقي، لا تستطيع التّعبير ولا النّطق عن نفسها، بسبب الغضَبْ بشكلٍ أساسي. ولأنّ هذه الهويّة، ما زالت منذُ وصولها إلى إسرائيل وحتّى الآن، تعتقدُ عن نفسها كَما يعتقدُ الآخرون عنها، بدُونيّتها. فالشّعر، المكتوب بلغة الغضبْ والابتذال إلى حدٍ ما، والذي يُوضحُ فيما يُوضحُ، رغبَةً هائلة في الابتذال، والمُباهاةِ بهِ، بهويّة فوضويّة، بربريّة، حقيرة، مبتذلة، كأنّها بهذه الطّريقة إنّما تتحدّى النّظام، الحضارة، التحضُّر الأوروبيّ في المؤسسة الأشكنازيّة. هذا هو احتجازُ الهويّة الشّرقيّة، وهكذا، تبقَى حبيسة حالة من الاحتجاجْ السّياسي والاجتماعي، الدّائم في صفوف الحركة اليهوديّة الشّرقيّة.

  الهويّة اليهوديّة الشّرقيّة، كما هي بطَبيعتها، ستبقى مُحتجزة في اللاوعي اليهودي الشّرقي، لا تستطيع التّعبير ولا النّطق عن نفسها

وحتّى التغيّرات السّياسية في صفوف اليهود الشّرقيين، كحركة شاس، التي تلعب دورًا مهمًا ورئيسيًا إلى حدّ ما في الحياة السّياسية في إسرائيل. وتغلغل الشّرقيين في أحزاب هامّة في الحياة السّياسية، كحزب الليكود. حتّى هذه التغيّرات، ليست تغيّرات في مبنى الهويّة، ولا تعبّر عن حالة تَماهي طبيعيّة من هويّة مضطرّبة منعزلة مفصولة بفعلِ المؤسسة، إلى هويّة طَبيعيّة تنتمي بصورة طبيعيّة إلى نسيج اجتماعي سياسي واحد هو المجتمع الإسرائيلي. هذه التغييرات، تُؤدّي إلى خلق حالة من النّخبويّة في المجتمع اليهودي الشّرقي – إذا جاز استخدام التّعبير، وتُؤدّي إلى مزيد من الشّروخ في هذه الهويّة، تمامًا كما يحدثُ في المجتمع الأسود في أمريكا. نخبويّة من شأنها أن تزيد من حالة الأزمة الثقافيّة التي تعيشُها الهويّة الشّرقيّة في إسرائيل.

  الهويّة الشّرقيّة في إسرائيل، ليست إلّا مكوّنا من مكوّنات مجتمع مُشوّه غير قادر على التّلاحم الطّبيعي فِيما بَين مكوّناته، إلى حدِّ التّناقض الجوهري 

يكون من الصّحيح إذن، أنّ الشّرقيّة في منطق الظّاهرة، لَيست ظاهرة كنقيض للأشكنازيّة، بل هي تحتوي صِراعها مع الأشكنازيّة، ومع ماضيها العربيّ، كمكوّنات لهذه الظّاهرة – الهويّة. ومن هذا المنطق تحديدًا، فإنّ الهويّة الشّرقيّة، طالما هِي شرقيّة لأنّها فِي صراع مع هذين المكوّنين، وطالما أنّها شَرقيّة لأنّها لا تعرفُ تمامًا إلى أين تَنتَمي فِي أرضِ إسرائيل، وأرضُ إسرائيل تنتَمي لأيّ هويّة في نظرها، ستَبقى بهذا المَنطقْ حبيسة هذا الصّراع المأزوم، الذي لا يفعلُ شيئًا سوى تعميقْ الأزمة. وصولًا إلى أن تَكون واحدة من أهمّ مكوّنات الهويّة، هي أنّها في حالة صراع دائمْ، تمامًا كما الآن هي عليه. أيْ، بدلًا من أن تصل إلى حالةٍ من التّماهي مع الذّات الإسرائيليّة الكلّية – إذا كانت هذه الذّات موجودة، وتتحوّل بفعلِ عمليّة مؤسساتيّة إلى جزء طَبيعي، يكون البديل، تحوّلها وتماهيها مع مسألة أنّها مُتصارعة بصورة أزَليّة، لتكون نقيضًا في النّهاية، ونقيضًا حتميًّا لصورة الصّراع المُتخيّل حول الهويّة الشّرقيّة والأشكنازيّة. إلّا أنّه وبالنّظر لما قاله عاموس عوز، فإنّه قد يكون من الصّحيح، أنّ ذاتًا إسرائيليّة كلّية، أي مُجتمع حقيقي، هو ليس بالواقع في إسرائيل، وأنّ ما يُشكّل المجتمع الإسرائيلي ليس أكثر من مجموعة أسباب وحجج. وهذه الأسبابُ والحجج، مُتناقضة ومتناحرة ومتوتّرة فيما بَينها إلى درجةٍ تُهدِّد بالهَلاك الكامل لفكرةِ المُجتمع غير المُحققة حتّى اللحظة. وبِذا تكونُ مسألة الهويّة الشّرقيّة في إسرائيل، ليست إلّا مكوّنا من مكوّنات مجتمع مُشوّه غير قادر على التّلاحم الطّبيعي فِيما بَين مكوّناته، إلى حدِّ التّناقض الجوهري حول الأسباب التي تَدفع لتأليف مُجتمع حقيقي.


اقرأ/ي أيضًا:

الحاسيديم اليهود: الجنس إجباري والإنترنت ممنوع!

صور | رموز "يهودية" تُحاك في مخيّم بغزة!

ما بعد إسرائيل.. تشريح الذات الصهيونية