07-سبتمبر-2015

يوآب ليمّير/ أ.ف.ب/ Getty

الساعة الخامسة والنصف صباحًا على كتف رام الله، لكن ليس في إحدى "الضواحي" التي يتم بناؤها لفلسطينيي ما بعد أوسلو ضمن ادعاء الاستيطان الفلسطيني المضاد الزاخر بالتطبيع الاقتصادي في جوهره، بل في القسم 6 من معتقل عوفر العسكري.

يوم جديد بزغ في جدول أيام حياة الأسر، السكون قاتل بين الخيام الأربعة في هذا القسم، أين يمكن العثور على مائة أسير يعيشون في مساحة ضيقة لا تسمح في هذا الوقت من اليوم بقول صباح الخير، حتى لا توقظ عشرات ممن ينامون حولك. يخلو المكان سوى من بعض الهمسات هنا وهناك، وفجأة يبدأ قرع الأبواب ببساطير حراس المعتقل، لأن ما يسمى بـ"العدد" آن أوانه، وهذه البداية تعني أن يخرج الجميع إلى باحة المعتقل ليتم تفقد وجود جميع الأسرى عبر فحص أرقامهم التسلسلية.

فجأة يبدأ قرع الأبواب ببساطير حراس المعتقل لأن ما يسمى بـ"العدد" آن أوانه

ما إن تأتي قوة القمع والعدد الصهيونية، حتى تتذكر أن مفاتيح السجن معلقة في جيب جندي قادم من روسيا، أو أحيانًا من أثيوبيا، وتنسى في هذه اللحظة تحديدًا كل توترات الاعتقال، وإزعاج اليقظة المبكرة والوقوف في الساحة قبل مطلع الشمس مع لفحات البرد الجبلي حول رام الله. تنسى كل شيء، وتتعلق بالتساؤل عن منطقية ما حولك، خاصةً أن مفاتيح البوابة التي تحول بينك وبينك حريتك في جيب جديد آتٍ إلى "أرض الميعاد".

ما إن ينتهي العدد الصباحي، حتى ينساب الأسرى إلى خيامهم، كل إلى "برشه"/ تخته، لتعود لحظات الهدوء إلى القسم 6، الذي لا تعلم كم من الوقت ستعيش فيه أسيرًا، ربما عام وربما عامان وربما لا تعرف أو لا تستطيع التكهن. لم يصدر حكم من المحكمة العسكرية بشأن قضيتك، وما تزال معتقلًا على ذمة "الشاباك"/ جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، أو يمكن القول المخابرات دون تلطيف أو إيراد للتسميات الرسمية.

في مثل هذه اللحظات تحديدًا، يكون في الرأس ما هو أشبه بميزان ضخم، تضع فيه كل ما عرفته وورد على سمعك من الخارج، تزن كل خبر وكل قضية، والمقارنة الوحيدة الممكنة، تكون بما تعرفه قبل اعتقالك، تبًا للخيال عندما لا يسعفك في تصور حال الشارع الذي تعرفه في أزقة مخيم اللاجئين أين ولدت لاجئًا.

في السويعات التي تفصل بين العودة من العدد الصباحي واستيقاظ رفاقك في الخيمة والقسم مرة أخرى ليبدؤوا يومهم، تستعمل هذا الميزان كثيرًا، وتستذكر ما سمعته في آخر مكالمة هاتفية مع حبيبتك الجامعية، التي اقتربت من التخرج وأنت ما تزال طالبًا في السنة الأولى وفق آخر وثيقة استخرجتها والدتك من الجامعة لضمان حقك في استكمال الساعات الأكاديمية عند خروجك، غريبة هي ترتيبات أمي لحياتنا بعد الأسر، من سبقني من إخوتي ومن تبعني إلى المعتقل، قامت أمي بذات الدور معنا جميعًا، بدأت تضع الخطط لما بعد التحرير منذ اليوم، ربما لو اتبعت منظمة التحرير الفلسطينية منهجية أمي لما آل المآل إلى ما هو عليه، ولما كنا نسمع من داخل المعتقل عن اعتقال أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية لمن كانوا معنا بعد تحريرهم.

كل ما مر هو في ميزانك أنت، الذي ابتدعته للإبقاء على إحساسك بوزن العالم، الذي يفقد وزنه وأنت في الداخل، أما عند استيقاظ باقي الأسرى، جميعًا نشرب القهوة الصباحية، ونمارس عادة عربية شائعة بالاستماع إلى فيروز سويًا، نتبادل ما عرفناه وما توارد من أخبار من داخل المعتقل وخارجه، نحاول أن نرسم خريطة طريق يومية، أحيانًا يطرأ على استديوهاتنا الصباحية وصول قادم جديد، وهذا يحتل قسطًا لا يستهان به من الاهتمام، من أين؟ ما اسمه؟ من أي فصيل؟ ما قضيته؟.. إلخ. نريد أن نعرف، ليس لأهمية الأمر بقدر ما هي فطرة الالتهاء بما هو متوافر.

 مفاتيح البوابة التي تحول بينك وبينك حريتك في جيب جديد آتٍ إلى "أرض الميعاد"

 تستمر في يومك ما بين قراءة وممارسة الرياضة والاطلاع على شؤون عالمنا العربي المخيف. إنها السادسة مساء، في هذا الوقت يأتي العدد المسائي الأخير، ليس مزعجًا كما العدد الصباحي، لكنه مزعج طالما تسبب في انقطاع الأحاديث وتأجيلها. يأتي السجانون كلٌّ بلغته ولكنته، تسمع العبرية في طور التدرب عليها، وتسمعها فصيحة كذلك، تلتقط العربية وكذلك الروسية، أحيانًا ما يشبه الروسية ولكن ليست هي.

كل هذا غريب، لكن الأغرب أن يكون هاجسك وأنت في المعتقل الصهيوني، هو التفكير بمصير ساعاتك الأولى خارج المعتقل، هل سيكون بين أيدي أجهزة السلطة الأمنية، تنكيلًا لا ترحيبًا، كما مصير كثيرين ممن سمعت قصصهم من رفاق الأسر الذين خرجوا؟ أم ما الشكل الذي سيتبع معك من المضايقة من طرفهم أو مباشرة من طرف ضابط الشاباك المسؤول عن متابعة ملفك؟ هل ستعود للقاء تلك الصهباء التي خرجت إلى كلية "جولد سميث"  لتنال الماجستير وأنت في المعتقل، أم ستنشغل في إتمام فروضك الجامعية مع زملائك في الصف؟ يخطر لك أنهم كانوا في المدارس الإعدادية عند دخولك المعتقل!